شعار قسم مدونات

السوري وتركة السنوات الست

blogs - حلب

في مثل هذه الأيام من السنة ونحن على أعتاب عامٍ جديد، يجلس السوري مع نفسه لدقائق في محاولةٍ لإجراء جردٍ بسيطٍ لاثني عشر شهراً من عمر الزمن. بدايةً، يحاول تنظيم ملفات جراحه وترتيبها من الأحدث فالأقدم، لا بل من الأكثر إيلاماً، أو قد يبدأ بتركة السنوات الست الثقيلة وما يترتب عليها من فوائد متراكمة.

 

ها هو ذا يمسك بتهمته الجاهزة كحليّة اللون كلون أيامه "جواز سفره" متأملاً تجارب الموت المطبوعة عليه على شكل أختام مغادرة ووصول.

أولاً، يمر بذاكرته سريعاً على أحداث العام الحالي فيجد عقله قد صنفه تلقائياً ثم أضافه لإخوته الخمسة على نفس الملف تحت عنوان سنوات القهر، يغلق عينيه فيُعرض أمامهما شريطٌ مختصرٌ لأحداث كل عامٍ من تلك الأعوام الستة وما اختبره فيها من قصفٍ وقنصٍ وذلٍ وجوعٍ وتهجير، فيكاد يشعر بطعم الأمرين يذوب في فمه ثم ينزل لمعدته فيعتصرها. ينطوي على نفسه ويسند رأسه إلى ركبتيه، وماهي إلا ثوان حتى يستجمع قوته ـ لكثرة اعتياده الأمرـ فيرفع رأسه من جديد.

 

ها هو ذا يمسك بتهمته الجاهزة كحليّة اللون كلون أيامه "جواز سفره" متأملاً تجارب الموت المطبوعة عليه على شكل أختام مغادرة ووصول، بعدما ختمت كلٌّ منها حياته بلون ورائحة الموت بأشكاله المختلفة. يكاد يحلِف أنه قد رأى الموت بأم العين في كل خطوةٍ من خطوات رحلته عبر أصقاع الأرض هرباً من الموت نفسه، رآه كثيراً حتى ألفه وروّضه وأثبت له أن إرادة الحياة أقوى منه بكثير. لقد أثبت السوريّ للموت أنه قد فقد هيبته منذ زمن وأن أقصى ما يمكنه تحقيقه هو تنفيذ إرادة الله وأن الذين استسلموا له ماتوا وإن بقوا على قيد الحياة.

 

بعدها يعرّج السوريّ على القائمة التي كان قد كتبها العام الماضي والتي تحوي أسماء معارفه وأهله الذين ينوي أن يرسل لهم تمنياته بالعام الجديد، فيحذف منها أسماء شهداء هذا العام وأسماء الذين لم يعد يعرف طريقهم أو في أي محطة حطّ بهم قطار النزوح. ينظر إلى ما تبقى من القائمة فيرفع نظره ويخفضه متنقلا بين أعلاها وأسفلها فتدمع عيناه وهو يتذكر حارته التي ضمتهم جميعا يوما ما وهو يدندن: "بعيد عنك حياتي عذاب متبعدنيش بعيد عنك.. ماليش غير الدموع أحباب معاها بعيش بعيد عنك"

 

إن كنا بقوة الأمل قد قطعنا ثلاثة أرباع هذا الطريق المستحيل، فاليأس من الرجوع إلى الوراء هو ما سيجعلنا نكمل الطريق حتى النهاية.. لنا الله، وكفى بالله رفيقاً في المحن.

يمسح دموعه ثم يمسك بملف حساباته المالية فيجده قاتم اللون أسود الصفحات كالحاً، فيفكر أنه من الأفضل له أن يتناساه الآن، فالحفاظ على سلامة عقله الذي لم يعد يحتمل المزيد من الخسائر، أولى وأهم من البحث في ملفاتٍ خاسرةٍ. ثم يفتح صفحة أحلامه المؤجلة التي بَهُت حبرها فلا يعيرها اهتماماً، ثم وببساطة شديدة يمدد لها عاماً آخر كما جرت العادة. يتصفح ألبوم صور ذكرياته بما فيه من مآسي فلا يوقف سيلها الجارف إلا تذكره لحقيقة أن حاله هو أفضل من حال الكثير من إخوانه المنكوبين. يستشعر نعِم الله ورحمته فيرفع بصره إلى السماء ويشكر ربه بقلبه قبل لسانه فتسكنه حالةٌ من الرضا والتسليم.

 

وأخيراً يفتح مفكرة السنة الجديدة ليقلب صفحاتها البيضاء فيأخد نفساً عميقاً وترتسم على وجهه ابتسامة فيها من اعتياد الألم بقدر ما فيها من الأمل وهو يقول في نفسه: "اي يعني شو بدو يصير أكتر من اللي صار! إلنا رب ما بينسانا". يفتح الصفحة الأولى من مفكرة السنة الجديدة ويمسك بالقلم ليخط عليها: "إن كنا بقوة الأمل قد قطعنا ثلاثة أرباع هذا الطريق المستحيل، فاليأس من الرجوع إلى الوراء هو ما سيجعلنا نكمل الطريق حتى النهاية.. لنا الله، وكفى بالله رفيقاً في المحن". يغلق المفكرة ويغلق معها أفكاره.. يضعها جانبا ثم يضع كفيه على يدي الكرسي ويضغط عليهما رافعا جسده لينهض بتثاقلٍ وهو يقول: "بسم الله.. استعنا على الشقا بالله".

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.