شعار قسم مدونات

الأقليات المقدّسة

blogs- حلب

منذ اندلاع الثورة السورية المباركة تفنن المجتمع الدولي باختلاق الأعذار الواهية للتملّص من دعم الجيش السوري الحر من جهة وإشغال المعارضة السياسية المتمثلة بالمجلس الوطني آنذاك بلعبة "تمثيل جميع أطياف الشعب السوري"، من جهة أخرى لحماية نظام الأسد أطول فترة ممكنة ريثما تنضج طبخة التنظيمات "الإرهابية" التي ستعطي الشرعية لكل من هبّ ودبّ -من عصابات أفراد وأحزاب ودول- لتدمير المدن والقرى السنيّة وتهجير سكانها واستبدالهم بميليشيات طائفية مقيتة من لبنان والعراق وأفغانستان وبلاد لا يعلم بها إلا الله!
 

وكان العذر الأوقح والأقبح الذي صدّع رؤوسنا به ساسة العالم هو حماية الأقليات حتى تم قتل مليون وتهجير اثنا عشر مليون مسلم سنّي سوري ! وكأن المجتمع الدولي كان عميّاً عن اللحمة الوطنية والتسامح الديني والعرقي مئات السنين بين الأغلبية العربية السنيّة وجميع الأقليات الإثنية والعرقية قبل استيلاء نظام الأسد على الحكم عام 1970!
 

فإن فتح أوروبا أبوابها للمهجرين السوريين لم يكن من باب الإنسانية والرأفة والرحمة؛ بل من باب الخبث السياسي والتآمر على شعب ثار على طاغية.

وكأن المجتمع الدولي لم يسمع بفارس الخوري المسيحي البروتستانتي الذي انتخب رئيساً للمجلس النيابي عام 1936 وعام 1943 ثم تولى رئاسة مجلس الوزراء ووزارة المعارف والداخلية عام 1944 وقد كتبت الصحف الأوربية آنذاك "إن مجيئ فارس الخوري إلى رئاسة الوزراء وهو مسيحي بروتستانتي يشكل سابقة في تاريخ سوريا الحديث بإسناد السلطة التنفيذية إلى رجل غير مسلم" وقد شكل الخوري ثلاث حكومات في عهد الرئيس شكري القوتلي..

وهذا إن دلّ على شيء فيدلّ على أن الأغلبية السنيّة في سوريا هي الحصن الحصين للمسيحيين وباقي الطوائف والأعراق غير العربية وليس نظام الأسد الذي بث التفرقة وقتل ودمّر وشرّد وارتكب عشرات المجازر، لكن ساسة العالم على ما يبدو لم يقرأوا تاريخ المسلمين في سوريا إلا بعد استيلاء النظام الطائفي على الحكم ونالت جرائمه رضاهم!
 

لا أحد يستطيع تفسير صمت العالم عن التهجير الممنهج للمسلمين السنّة إلا بالتآمر الجماعي مع هذا النظام، فقد هجّر ملايين السنّة من مدنهم وقراهم، وتم ذلك غالباً بالتنسيق مع الأمم المتحدة ومبعوثها ديمستورا وعلى أعين العرب والعجم ومجلس الأمن وهيئات حقوق الإنسان، كذلك فعلت وحدات حماية الشعب الكردية وقامت بتهجير العرب السنّة من مدنهم وقراهم وكأن شيئاً لم يكن، لكن عندما هاجم تنظيم الدولة قرية صغيرة اسمها عين العرب "كوباني" وهجّر سكانها قامت الدنيا ولم تقعد واستنفر الإنس والجنّ وهاج الإعلام العربي والغربي حتى ظننا أن كوباني هي القارّة السادسة التي تقع فيها القرية النائية سوريا، وكل هذا المجون والجنون لأن سكانها من الأقليات!
 

ابتلينا باستعمار داخلي من أبناء جلدتنا وديننا وعِرقنا يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يقولون يرفعون الوضيع ويحطّون من قدر الشريف ويحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام.

كذلك أصاب الإعلام العالمي هيستيريا الرحمة عندما غرق الطفل السوري الكردي ديلان وارتعشت أجساد واقشعرّت جلود ساسة العالم وأدبائه وفنانيه ورياضييه واستنكروا ورثوا ديلان وتباكوا عليه كما لم تبكي أم على موت ولدها الرضيع، أولئك أصحاب القلوب الرحيمة والإحساس المرهف قُطعت ألسنتهم وجفت أقلامهم وتعطّلت كاميراتهم عن آلاف المهجّرين الذين ابتلعتهم البحار وتقاذفت جثثهم الأمواج وعن مئات الآلاف الذين قضوا تحت الأنقاض والبراميل المتفجرة والصواريخ والأسلحة الكيماوية والذين بحّت حناجرهم وتفسّخت أجسادهم تحت التعذيب في المعتقلات وعن الذين قتلوا ذبحاً من الوريد للوريد بالسكاكين الممهورة بكلمة السرّ الأمريكية "يا حسين"!
 

هذا ليس "الكيل بمكيالين" كما يقولون؛ بل هو عهر سياسي وإعلامي دولي واضح لا لبس فيه، وعدم تدخل أمريكا لحماية المدنيين العرب السنّة العزّل لهو عين الإجرام وحق يقين المؤامرة الدنيئة على الشعب الذي ارتكب إثماً عظيماً و قال "حرية حرية" في حين أنها لا تخفي دعمها العسكري والسياسي لفصائل تريد سلخ الشمال السوري وتهجير أصحاب الأرض الأصليين وخلق دويلة معادية لتركيا والثوار معاً!

إن ما نراه من تجاذبات سياسية بين روسيا وأمريكا ما هو إلا مسرحية سخيفة تافهة مهلهلة الحبكة والسيناريو والإخراج والتمثيل ؛ فلم تترك أمريكا الساحة السورية فارغة أربع سنوات عن ضعف عسكري أو اقتصادي أو خوف من الوقوع "المستنقع" السوري، بل تركتها صورياً وأفسحت المجال بشكل أو بآخر لدخول الميليشيات الطائفية والعرقية وأمراء الحرب وأصحاب الرايات المخابراتية العربية والدولية لإضعاف الجيش السوري الحر وتشتيته ثم تغيير اتجاه بوصلة حربه المشروعة لإطالة عمر نظام الأسد ريثما يحين دور روسيا في محاربة الإرهاب بصفٍّ واحد مع إيران والنظام والعصابات الموالية لهما!

وليست السياسة الأوروبية بأحسن حال من الأمريكية؛ فإن فتح أوروبا أبوابها للمهجرين السوريين لم يكن من باب الإنسانية والرأفة والرحمة؛ بل من باب الخبث السياسي والتآمر على شعب ثار على طاغية، فهذه الإنسانية العرضية ماهي إلا لإفراغ ساحة القتال من ثوار لم يجدوا من يمدّهم بالسلاح المناسب والذخيرة الكافية والغطاء السياسي، فما يدّعيه وينادي به الغرب بمجمله من حريات وحقوق إنسان وحيوان ونبات وبيئة مستثنى منه المسلمين عامّة والسنّة العرب خاصّة.
 

كنا أبناء وطن واحد متجاورين متحابين، حتى اجتاح بلادنا وباء اسمه حافظ الأسد مرتدياً ثوب العروبة وحذاء الاشتراكية فاضطهد الأكراد وزرع الحقد بقلوب كثير منهم حتى صار لديهم نزعة الانفصال.

وما أولئك الذين يسبّحون بحمد كهنة السياسة الأمريكية منذ عشرات السنين والروسية منذ تدخلها السافر في سوريا إلا إمعات مأجورين ينفذون أوامر أسيادهم ويحققون أهدافاً استعمارية ما كانت لتحقق بوجود استعمار خارجي مهما طال الزمن، لكننا ابتلينا باستعمار داخلي من أبناء جلدتنا وديننا وعِرقنا يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يقولون يرفعون الوضيع ويحطّون من قدر الشريف ويحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام حتى بات المسلمون العرب فريسة عالقة في شبكٍ ملقاة في فلاة ينهش لحمها وحوش الأرض وجوارح السماء!

وعَوداً على ذي بدء أقول ما كنّا وما كان لنا أن نفكّر يوماً باضطهاد فلاناً من الناس لأنه غير عربي أو غير مسلم أو غير سنّي، كنا أبناء وطن واحد متجاورين متحابين متعاونين متصاهرين نفرح لأفراحهم ونحزن لأحزانهم نشاركهم أعيادهم ويشاركونا أعيادنا حتى اجتاح بلادنا وباء اسمه حافظ الأسد مرتدياً ثوب العروبة وعمامة القومية وحذاء الاشتراكية فاضطهد الأكراد وحرم معظمهم جنسية وطنهم وزرع الحقد بقلوب كثير منهم حتى صار لديهم نزعة الانفصال.
 

وعلى جبهة أخرى وبقيادته الحكيمة ظلم حزب الإخوان المسلمين ظلماً شديداً حتى اضطر بعض أعضائه لتشكيل فصيل مسلّح ليكون فيما بعد حجّة للأسد لارتكاب مجزرة حماة التي راح ضحيتها ما يقارب أربعين ألف مدني بريء، هذا هو حافظكم وهذا هو بشاركم أبناء الأقليات، فاطمئنوا أيها السادة فقد هُجّر وقُتّل الأغلبية أصحاب الأرض ونُقّحت وتكاثرت الأقليات المقدّسة التي تخافون عليها من الانقراض !

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.