لكن العوام يرون المنطق مجرد حجة باهتة لمن يماطلون في أخذ المواقف وإطلاق الأحكام، بل يتهمونهم بقلة الفهم وتراجع البديهة، عكس مواقفهم الجاهزة للمجاهرة، الحاضرة للمبارزة، المتأهبة للمهاجمة، تحاول أن تقنعهم أن الأمر أكبر من صور في مواقع التواصل الاجتماعي أو فيديو شاهدوه في هذه القناة أو تلك، لكنهم يصرون على غيهم وتسرعهم، أما حجتهم الجاهزة فنصرة قضية ينسون أن الحكم عليها بأنصاف المعلومات، وجزء من الحقائق سيجعلها خاسرة بالثلاث، أحكام ستجعلهم مجرد أحصنة ركبها العدو ليربح على ظهورهم المعركة.
لا شيء أفظع من الوقوف على مسافة واحدة بين الملل والفرحة، فلا أنت في هذه ولا أنت في تلك، حالة من الضياع تجتاحك تجعلك غير قادر على الحزن أو الفرح. |
حين تفهم كل هذا، تتأكد أن القوم لن يلتفتوا إلى تحليل منطقي لأنه لا يخاطب عاطفتهم، لا يجيش مشاعرهم، ولا يستنهض تاريخ أجدادهم، منطق يكرهه العوام لأنه يذكرهم بأن الشفاء يكون باقتران شرب الدواء والاخلاص في الدعاء، وما لبثت القدس في حضن الصليبيين أكثر من قرن قبل أن يحررها صلاح الدين، إلا لأن المسلمين دعوا ولم يصدقوا دعواهم بالفعل.
وأصعب ما واجه الناصر لم يكن الصعوبات العسكرية، والتضاريس الميدانية، بل اقناع أهل ذلك الزمان أن الأمر ممكن، وتحرير أول القبلتين أمر وارد، وها هي اليوم في حضن الصهاينة منذ 1948 – 68 سنة – لكن الهمم خارت والعزائم تلاشت، والممكن أصبح في نظر العوام مستحيلا رغم أن المنطق يبقي الأمر جد ممكن، لمن تقرأ منطقك يا عمر؟! دعهم يصرخون، يبكون، يندبون ثم يفرحون..
لأن أمريكا ناصرت جزء من المسلمين ضد الروس الذين تخندق ورائه مجموعة اخرى من الدول المسلمة، يتفاخرون بدورهم أن الدب معهم، وعلى ذلك يبنون هجومهم على من خالفهم من المسلمين، رغم أن المنطق يقول أننا مجرد دمى تحركها القوى الكبرى لخدمة مصالحها التي لا علاقة لها بنا وبما نريد، وإن زالت مصالحهم منا زال دعمهم لنا.
نحن في زمن تحول الذكي إلى مجنون والغبي إلى ناطق باسم ما يجب أن يكون، لأن الشعبوية أصبحت تجيش الرأي العام، وتحارب كل رأي يخالفها وإن كان متسلحاً بالمنطق والعلم.
المنطق الذي نعاديه، يؤكد أن الذي جعل الكفة الشيعة تميل في حلب والعراق، هو أخذهم لأسباب النصر ونزولهم لساحات المعارك ودفاعهم عن ايديولوجياتهم الخاطئة في نظرنا والصحيحة في نظرهم، عكس أهل السنة الذين ظنوا أن نصرة قضاياهم يكون بدفع المال للغرب حتى ينفذها، فاستنزف الغرب أموالنا وها هو ترامب يطالب بالمزيد ليناصرنا وينصرنا.
لن ننتصر حتى نقدم من دمائنا وأرواحنا ما يعلي قضايانا العادلة، فالدماء وحدها من تسترد المقدسات المنهوبة والأراضي المنكوبة، العراق أول القصيدة وحلب الشهباء ثانيها والنهاية، احتلال من المحيط الى الخليج، الدور قادم علينا لا محال، إلى متى ننتظر من الغرب أن ينصرنا؟ متى نبدأ في نصرة أنفسنا؟ متى نقتنع أن تفوقهم وتقدمهم سببه تراجعنا لا قوتهم؟
لا شيء أفظع من الوقوف على مسافة واحدة بين الملل والفرحة، فلا أنت في هذه ولا أنت في تلك، حالة من الضياع تجتاحك تجعلك غير قادر على الحزن أو الفرح، لا تفهم سببا للأمر ولا سبيلا للفرار.
البؤس ليس في ما نعيشه من انحطاط سياسي، تخلف اقتصادي، تقهقر اجتماعي، انسلاخ ثقافي، ومآسي تربوية، البؤس في اعتبار كل هذا عاديا لا يستحق التفكير أو التحرك، لأننا لا نرى أننا نعاني مشكلة فكرية قوامها انسلاخنا عن مقومات أمتنا واهتمامنا بعالم الأشياء الذي يخفي تخلف عالم الأشخاص فينا.
اختلفنا وسنختلف في تحديد أولويات الأمة، خلافات وصلت لدرجة الخصومة، لكننا نسينا أهم شيء وهو أن نبدأ في العمل ونأخذ بالأسباب. |
نحن لا نكف عن نمطية استفزاز الضحالة والغباء، نحن لا نكف عن استفزاز نمطية التفكير وتكرار نفس العبارات والجمل والكلمات والحجج، نحن في مجتمع قتل فينا الإبداع حتى أصبح مرادفا للحرام في الأدبيات الدينية وللعيب والعار في الأدبيات الشعبية.
المجتمعات التي لا تجرب وتستفز المستقبل بأفكار مجنونة تبقى متخلفة عن ركب الحضارة، مستهلكة لمنتجات الآخرين، مبهورة بعالم أفكارهم وأشيائهم، وهو ما جعل السابقين الأولين يضحكون على من حاول الطيران ووصفوه بالجنون، وعلى من فكر في تشريح جثث البشر لفهم عمل جسد الإنسان واتهموه بالسحر، كيف لا وكل من يحاول التجديد والتغيير والتطوير اليوم، يتهم بجرائم أقلها إقلاق راحة الأمة النائمة التي ترفض أن تستيقظ، أمة تعتبر أنها بتاريخها يجب أن تكون في صدارة الأمم، تماما كما يعتقد كبار السن أن كلامهم صحيح على الإطلاق ولا مكان فيه للخطأ لتقدمهم في السن.
اختلفنا وسنختلف في تحديد أولويات الأمة، خلافات وصلت لدرجة الخصومة، لكننا نسينا أهم شيء وهو أن نبدأ في العمل ونأخذ بالأسباب، فهذا هو الشيء الوحيد القادر على إخراج الأمة من دوامة اليأس لتعود إلى سبيل الفلاح والنهضة، فالاحتلال قبل أن يكون على جغرافيتنا سبق وغزى عقولنا وأفئدتنا، ولن نحرر الأولى إذا لم تتحرر الأخيرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.