شعار قسم مدونات

نحتاج إلى تعليم الأخلاق

blogs - talking

أذكرُ وأنا طالب في الابتدائي كيف كنتُ أُخبِّئُ بعض الطباشير التي كان يستعملها معلمي ويقوم بإتلاف ما تبقى منها بعد فراغه من الدرس، وأذكر أيضاً كيف كنتُ أُسرع إلى البيت بعد انتهائي من الدوام المدرسي وقبل تناولي طعام الغداء، وكيف كنتُ أصعدُ إلى سطح بيتنا حيثُ خزاناتُ المياه مستحضراً صفي الدراسي وأقوم بدور معلمي وأدون ما أملاه عليّ أستاذي من دروس في ذلك اليوم مرة أخرى. وفي هذه الأثناء وُلدت عندي قيّم دعَمت قيمة المعلم في ذهني، ودعّمَت هيبته في قلبي، وأصبح المعلم يعني لي الكثير والاهتمام الأوّل والأخير في حياتي.

 

لسنا في عالم مثالي، ولا أطلب أن أكون في هذا العالم، ولكنّ الّذي يجب أن يكون مثاليّاً للغاية هو التعليم؛ لأنّه صناعة العقول، ومرآة الحضارة.

وكنتُ أتساءل كثيراً لِم هذا الاهتمام؟، بل رحتُ أسأل نفسي لم تقومين يا نفسُ بهذا الأمر؟! ولصغر سني حينها لم أجد جواباً سوى أنني كنت أهوى هذا الأمر وكفى. أنهيتُ دراستي الابتدائية ثم الإعدادية فالثانوية وما زلتُ محتفظاً بقيمة المعلم وهيبته في نفسي. وحملتُ هذه المشاعر إلى الجامعة وبتُ أراها مع أساتذتي فيها، وكان أساتذتي في نظري مثلٌ أعلى وقيم مثلى.
 

وبعدَما أنهيت دراستي الجامعيّة الأولى حملتُ مشاعري هذه إلى مدرستي وتلامذتي ومجتمعي الجديد الذي كنتُ أمارسُ نفس الدور الذي يُطلب مني الآن أيام كنتُ في الابتدائيّة! هذا الواقع الجديد الذي كنتُ أطمح إليه لم يكن كتلك الصورة المرسومة في ذاكرتي منذ الابتدائيّة؛ فالطالب لم يَعُد طالباً وفي أحيانٍ لم يَعدِ المربي مربياً، ربّما هذا التناقض يعود لتلك الصورة المثاليّة التي رُسمت في داخلي، وأنّ العالمَ لم يَعُد طبيعياً كما ظننتُ أو كما تظن أنت.

 

حقاً، إنّنا لسنا في عالم مثالي، ولا أطلب أن أكون في هذا العالم، ولكنّ الّذي يجب أن يكون مثاليّاً للغاية هو التعليم؛ لأنّه صناعة العقول، ومرآة الحضارة. ونحن بحاجة إلى أن ننظر مطولاً في منظومة التعليم في بلادنا العربيّة، مناهجُنا منذ زمن طويل تحتاج إلى أن نسائلها، أمَا وقد فعلنا وتجرأنا على النظر فيها فعلينا أن نخضعها لمنظومة القيم التي تجمع عليها الأمة. ليس الهدف من مقالي هذا التنظير لما يمكن أن يكون عليه التعليم أو كيف يمكن أن يكون؟ فهذا له أهله والمختصون فيه، ولكنني كمربٍ ومشتغل بالتربية لابد وأنِ استفزّتني حالُ الكثير من الطلبة التي نتعامل معها، والبحث عما يمكن أن يصلحهم أو على الأقل عما يمكن أن ينجو بهم من عالم مفتوح على كلّ شيء.
 

عندما شعرت اليابان ببعض الأخطار التي تتهدد أسرها سارعت إلى تشريع مادة لتعليم الطلاب الأخلاق (وستبدأ تدريسها مع مطلع عام 2018)؛ فبناء النفس بالخلق هو الّذي يصنع الانضباط في المجتمع. ونحن في بلادنا العربيّة أشدُّ ما نكون إلى تشريع مادة في الأخلاق؛ لأنّ أيَّ نهضة تحتاج إلى أخلاق لتحميها، ونحن مسلمون والأخلاق عندنا دين وليست ثقافة أو تراث أو وسيلة لحل المشكلات.

 

إنّ الأخلاق تحقق السلام الداخلي للإنسان نفسه، وتحقق السلام الخارجي للمجتمع أيضاً، وتهذب النفوس والعقول معاً.

لا يُعنَي من هذا الطرح أنّ طلابنا لا يعرفون الأخلاق بل على العكس إنّ أبناءنا يؤمنون بالأخلاق ويعرفونها ولكنهم يحتاجون إلى مَن يوقظها في ذواتهم ويرونها أمامهم حيّة؛ فلربّما الطرح الرتيب للأخلاق يدل الطالب على المعلومة وقد يجعلها في عداد المثاليات المحكوم عليها بالمستحيل، وهذا ما قد يؤثر على وجودها واقعاً في حياته.

 

عندما تُحدِّثُ طالباً عن أخلاق الصالحين فإنّه يندهش أشدّ الاندهاش من روعة السلوك وقيمته وأثره في الناس، وعندما ترى التغذية الراجعة تجدهُ يردُّ عليك: هذا سلوك صعب إنّه سلوك الأنبياء! ولا يصلح الآن! وكأنّه يخصّ الأنبياء دونَه، ولا يؤمن بجدوى ذلك السلوك في حياته؛ لذا نحتاج إلى طرح معاصر، ومنهج حديث يختص ويدقق ويرتِّب ويفصّل ومن ثم يقدم بأسلوب جديد.

 

إنّ الأخلاق تحقق السلام الداخلي للإنسان نفسه، وتحقق السلام الخارجي للمجتمع أيضاً، وتهذب النفوس والعقول معاً، وعندما يتعلّمها الطالب بأسلوب جديد وبطرح مختلف في اثنتي عشرة سنة لا شكّ أنّها ستنعكس إيجاباً على ذاته وعلى مجتمعه ولن يكون هناك عنف جامعيّ أو مجتمعيّ أو تطرف أو إرهاب، وإن وجد فستكون المعالجة ذاتية من داخل المجتمع لأنّ الجيل يتربى على السلوك القويم منذ نعومة أظفاره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.