شعار قسم مدونات

إصبع غاليليو

blogs - book

كنت مرةً في أمسية بأحد مقاهي جدة بمناسبة خروجه من الخدمة، وكان المقهى على مدار عِقد من الزمان قد جمع له سيرةً حسنة، وصنع طبقةً من الروّاد الأوفياء يقصدونه، للحميمية فيه، ولأنه كان مشروعا يتجاوز فكرة المقهى البسيط الذي يوفر قائمة لذيذة، إلى ملتقى ثقافي ذي بُعد رمزي.

 

في ختام اللقاء، وقبل خروجه، أشار صاحب المكان للمكتبة وأن ما فيها هديةٌ للجميع، فتداعى الحضور ووثبَ الكلُّ يفرّغون الرفوف، وشاهدت الأصدقاء يحملون مجلّدات تنوءُ بالعُصبة أولي القوة، وشاهدتُ اثنين يتناوبون على حراسة رف ريثما يفرغ أحدهم الكتب واحدا تلو الآخر، أما أنا فظللتُ أراقب المشهد كاملا، تصلّبني عادة التردد في الاختيار والحسم، ولم أظفر سوى بكتابٍ يتيم هو "إصبع غاليليو"، في تمثّل للمقولة الدارجة "حين تكثر الطرائد، يقلّ الصيد"

 

والكتاب يتحدث عن عشر أفكار علمية عظيمة يجدر الاطلاع عليها، من التطوّر للحمض النووي وفيزياء الكم، ساهمت وتُسهم في تغيير فهمنا المألوف للحياة والكون، وتشارك بتطبيقاتها وتفسيراتها في إعادة تعريف الإنسان ومهمته ووظيفته وحدوده ومكناته.

 

ينبغي الإقرار بأهمية العلم في الفترة القريبة من تاريخ البشرية، بانتقاله من الحدس والتخمين، إلى الدليل العلمي، ومن امتزاجه بالأسطورة والخرافة، إلى المنهج التجريبي، في تطور يمكن تتبعه من سبل معرفة الحقيقة، والعلم بوصفة قوة هامة بدأ مع غاليليو بتقرير "برتراند راسل"، أي أنه لم يوجد إلا منذ ثلاثمائة سنة، ولم تكن جهود العلماء في كل الحضارات والحقب السابقة سوى تمهيدٍ لبروز العلم كعنصرٍ هام في تحديد شكل الحياة اليومية للناس.

 

لكن هل يمكن فصل العلم عن مجالات الحياة، بحيث يؤثر فيها ولا يتأثر؟ يصعب الجزم بهذا، في الوقت الذي نرى فيه العلم يتأثر كثيرا بأمزجة العلماء، ومواقفهم المبدئية، وكل الحقائق العلمية تخضع لتفسيرات كثيرة وتأويلات متباينة خارج المجال العلمي. ظلت مقولة "العلم في وجه الدين" تطبع العصر الأول من تاريخ العلم الحديث، وظنّ العلماء الطبيعيون منذ نيوتن وقوانين الحركة الأولى أن بإمكانهم فهم الكون باعتباره نظاما ماديا مغلقا على ذاته، ونيوتن نفسه -رغم إيمانه- كان يتخيل الكون منتظما جدا، ذا أفلاك مرتبة تدور في دوائر إهليجية منتظمة تحمها قوانين الحركة والجاذبية البسيطة، وهذا التصور المادي للكون أدى للظن بقدرة العلم على الإجابة عن الأسئلة الأولى والنهائية للوجود، والتي شغلت الإنسان منذ وُجد على ظهر البسيطة.

 

يذكر "برتراند راسل" في كتابه "النظرة العلمية"، أن زيادة المعرفة يجب أن تقترن بزيادة في الحكمة، والحكمة تعني الإدراك السليم لغايات الحياة، وهو في ذاته أمر لا يقدمه العلم

لكن مع نظريات النسبية لآينشتاين، ووجود نظريات جديدة لفهم فيزياء الكون في مستوى أكثر دقة، تبيَن أن الكون ليس بتلك الصرامة المادية أو الحتمية، وأنه على مستوى الجسيمات الدقيقة لا يمكن التنبؤ كثيرا بسلوكها، ويمكن الإشارة هنا لفيزياء الكم (الكوانتوم)، وتحديدا لتجربة "الشق المزدوج" حيث يسلك الضوء سلوك الجسيمات أحيانا، وفي أحيان أخرى يسلك سلوك الموجات، وهي تجربة على بساطتها تشير للكثير المهم، ما حدا بالفيزيائي الكبير "ريتشارد فاينمان" لأن يقول "كل من يزعم بأنه يفهم النظرية الكموميّة (الكوانتيّة) تماما، فهو لم يفهمها".

 

بهذا يتبين أن العلم، إذا سلّمنا بأمانة العلماء الذين يستنبطون القوانين الكونية باستخدامه، يقدم الحقائق مجردة بلا افتراضات أو ادعاءات، ويمكن للإنسان أن يوجهها كيفما يشاء، وهذا الأمر ليس بالسهولة الشديدة، وليس بتلك الصعوبة أيضا، لمن اقترب من مراكز البحث وصنع القرار، وامتلك أدوات الحشد لاستنتاجاته. بالنسبة لي، يبدو العلم فرصةً عظمى لفهم الحياة وتعزيز الإيمان بالله، لكن عوضًا عن الحديث عن إيمان ساذج، يمكن الحديث عن التجارب التي تشكّل الإيمان بصورته المتغيرة تبعا لحالة الإنسان، عن "التجربة الإيمانية"، والتي تجعل إيمان شخصٍ مختلفا عن إيمان جاره، وإيمان أبي بكر الصديق يعدل إيمان أمة بأسرها.

 

يمكن لأحدهم الحديث عن علم في مواجهة الإيمان، كما يمكن الحديث عن الحياة بوصفها مجالات منفصلة لا تتقاطع، لكنه سيكون كلاما لا معنى له. اليوم يحرك العلم سياسات الدول نحو إجراءات لحماية البيئة من مخاطر التلوث والاحتباس الحراري، ما يستدعي تغييرات على كافة المستويات السياسية والصناعية والاجتماعية للدول وشعوب العالم، بينما يُنادي حكماءُ العالم العلماءَ الطبيعيين كي يتحلوا بالحكمة والمسؤولية، وليكون العلمُ مساهما في خلقِ حضارة خيّرة، بعد أن تطورت الأسلحة النووية والذرية بشكل يمكن معه تدمير العالم مئات المرات، وإعادة الحياة -إن بقيت حياةٌ- إلى عصرٍ مظلم.

 

يذكر "برتراند راسل" في كتابه "النظرة العلمية"، أن زيادة المعرفة يجب أن تقترن بزيادة في الحكمة، والحكمة تعني الإدراك السليم لغايات الحياة، وهو في ذاته أمر لا يقدمه العلم، وأقارن هنا بين حكمة راسل (العالِم) وبين حكمة إيليّا أبي ماضي (الشاعر)، إذ يقول في قصيدة له:

 

إنْ يكُنْ علمُ الورى يشقيهمُ

يا إلهي ردّ للناسِ الغباءْ

 

وليجيء طوفانُ نوحٍ قبلما

تغرقُ الأرضُ بطوفانِ الدماءْ

 

لطالما سئلتُ عن العلاقة بين الطب والأدب، ولست بطبيب عظيم، ولا بأديب مجيد لأجيب، لكنني كنت أحاول دائما قراءة الحياة في مستويات مختلفة، ووجدتني كثيرا في دوائر مختلفة تتشابك وتقاطع، وقد كان هذا مربكا أحيانا ومريحا أحيانا، وجعلني أدرك أن المعرفة متسعة وبحرها متلاطم، وأن التخصص لا يعني أن يهمل الإنسانُ مجالات الحياة الأخرى، وأنه في بعض اللحظات يجب أن يستعين لفهم العالم بالدين والقراءات القديمة وبالفلسفة والعلم والآداب، وهذا ليس دعوةً لسيولةٍ عبثية، إنما محاولة لالتقاط المعنى بكل طريقةٍ ممكنة.

 

في رواية "موبي ديك" العظيمة لهيرمان ميلفل مررتُ باقتباسٍ بديع، وفيه أن البحارة في بعض لحظات الليل الصافية يطيبُ لهم أن يتخيلوا نهايتي السماء والمحيط ممتزجتين، حتى أن الأسماك لتسبح بجانب النجوم، وهذا الوصف، بالإضافة لكونه صورة مجازية شعرية عظيمة، ينطبق تماما على خلجات من الشعور بتشابك مجالات الحياة، واستحالة الفصل بينها، حتى إن المقولات ليفسر بعضُها بعضًا، والكتب تشير لبعضها، ومؤلفيها يجلسون في حلقات متجاورة يتداولون فيها الحكمة الإنسانية الغائبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.