شعار قسم مدونات

نحو رؤية اجتماعية لواقع الآخر

blogs - مجلس

لطالما عاملت مُجتمعات الدنيا المُختلفين عن نمطيتها بشيء من الإجبار والتنقيص سواءٌ أقامت هذه المُجتمعات على أساس مواطنة أو ديانة أو أيديولوجية أو عرقيةٍ ما أو قوميةٍ بعينها فإن من خرجوا على مواثيق النمطية لم يسلموا من الإخضاعِ والتهميش مهما كان عددهم واتفق المُشرعون والفلاسفة على اعتبارهم تكتلات مُعارضة، أو أقليات وذلك بحساب عددهم مُقارنة بالكل وبالاعتماد على الباب الذي يدخلون منه مضمار الاختلاف مع السائد والتعارُضِ مع المفروض.

 

ومن الطبيعي أن يُعمم كُل مجتمع نموذجاً واجباً على أبنائه تُحدده قيم المُجتمع وسلوكيات مؤسسيه من أفرادٍ وأفكار ويضم هذا النموذج نمطيات سلوكية وفكرية وأحيانا عَقائدية (دوجماتية)، ويعتبر المُجتمع السائرين على خُطى أطروحاته الفكرية والفعلية صالحين أما أولئك المارقين الخارجين عن القولبة فينظر لهم المُجتمع نظرة المعارضة أو الأقلية باعتبار حساب نسبتهم أمام المجموع.

 

كلما عانى أفراد الأقلية في الشموليات من ربقة الاضطهاد وأغلال استعباد الواقع بحقهم كُلما تنامى استمساكهم وانغلاقهم على نفوسهم.

تختلف طريقة المُجتمع في التعامل مع "الآخرين" وكلما مال القسطاس المجتمعي يُمنة اتجهت الأغلبية إلى تقليص وجود الأقلية والحد من مساهماتهم الاجتماعية وهضم دورهم ما أمكنها بأعرافٍ، أو تشريعاتٍ أو بالملاحقةِ الأمنية (كمعتنقي الديانات في الصين والإسلاميين في الشرق الأوسط) ومتى تأرجح الميزان يساراً كان المُجتمع تقدمياً وتباينت ردود فعل أبنائه ومؤسساته نحو الاقليات لتزيد مساحتهم في التعبير ويأخذون تمثيلاً أكثر إنصافاً من قُرنائهم في المُجتمعات الشمولية ذات القُطب الأوحد والفِكر الجامد الأجعد.

ويأخذ اصطلاح "أقلية" أكثر من شكل فهناك أقليات سياسية، واقتصادية، وطَبَقية وجماعات عرقية وقوميات بأكملها تندرج في ركاب هذا المُصطلح ذو السعةِ والشمول وعلى العموم فإن أشهر الأقليات هي الأقليات الدينية والمذهبية التي يختلف عمود شعائرها ومُعتقداتها مع البُنيان المذهبي والعقائدي المعمول به بين أروقة المُجتمعِ وأرجائه.

 

ويُشاع خطئاً أن تُستخدم لفظة أقلية فقط لوصف أولئك المنسيين المُهمشين في ستار المُجتمع القابعين على حافة التاريخ بلا ذكرٍ ولا حاضرٍ ومُجرد أضغاث أحلام ومحض أوهام عن مُستقبلٍ مرجو يتسولونه إما إشفاقاً بالتقام الفُتات أو ممانعةً ببروج التمرد والخروج مع أن اللفظة تضم أيضاً نفراً من القادرين المُفتئتين بالأمر القاضين بالنهى الذين رُبما شكلوا حكومات أو ليجاركية تُسخر موارد الدول لصالح استمرارية نفوذهم وديمومة سُلطتهم أو ببساطة أضحوا رجال أعمال من النيوليبراليين الذين يملكون شركات عالمية تتخطى الحدود والقوانين ويُشكلون جماعات مصالح قُيض لها عزل الحكومات وفتَّ الدول وتحديد أقدار الناس ومصائرهم في ضوء صفقات تُجارية لا تضع وزناً سوى لفكرتي المنفعة والخسارة!

 

ومع التعارض الجام بين حال الصنفين الأول والآخر إلا أنهما وكأي أقلية يتشاركون سمات سلوكية وفكرية أساسية تنبع من اعتزالهم الجموع أو عزلهم عن المجموع. تأتى على رأس الصفات العلامة الجوهرية المُتمثلة في إيمان تلك القلة بسمو يكتنفها وجلالة تحفها أبعدت الكثرة عنها فتظهر تلك الأبهة المضفية جليةٌ في تعاملهم مع الأكثرية وحديثهم عنها وتبريراتهم المُستمرة لمواقفهم المُغايرة لما اتفق عليه سلفاً أو أقره الرأي العام حالاً.

 

وانطلاقا من الاختيار والتمييز يرفع أبناء الأقلية أنفسهم فوق من يحوطونهم فإما تعاظموا بأملاكهم وإما ظنوا أن عقلاً تنويرياً رفع منازلهم، أو ديانة ألبستهم الحق مُمحصاً موحداً فدانت لهم في أنظارهم رؤوس الخلائق والعُلا. وكلما عانى أفراد الأقلية في الشموليات من ربقة الاضطهاد وأغلال استعباد الواقع بحقهم كُلما تنامى استمساكهم وانغلاقهم على نفوسهم ورُبما أوجدوا كوناً مُغايراً انغلاقياً يعزلهم عن الجماهير. يُمارسون فيه امتيازات أحقيتهم التي نُزعت عنهم فتراهم يتكورون حتى ينعزلوا عن المجتمع لو تركهم أو يرفعوا ألوية الغضب متى جار عليهم وركَّعهم.

 

إن الأقلية المُضطهدة متى تنسمت رحيق الحُرية وأمسكت بمقاليد السُلطة فإنها تنقلب بدورها إلى اعتماد المُمارسات التي أوجبت بحقها دهراً لتُعممها.

أما على النقيض وفى بُلدان الحداثة تسعى الحكومات المُتصالحة مع الاقليات دوماً إلى إعلاء مفاهيم التعددية والتعايش وتبنى نهج الإدماج الذي يعنى بالضرورة اثنتين إنهاءاً لوحشة الأقلية وغُربتها الاجتماعية بإدماجها في جسد المُجتمع ثم نزعاً لمخالبها وفنداً لأفكارها حتى تتحور عن شكلها الأصلي لشكلٍ آخر استساغه المُجتمع وأبطنه في بُنيانه مُستَوعَباً بين أبنائه.

 

تأتي بين الصفات أيضاً التكاتف، والتعاون وتغليب المصلحة الكلية على المنافع الجزئية ما يخلق بين الأقلية نوعاً من المواطنة وحساً خالصاً من الولاء والانتماء ولو وُجدت جماعة ما في مُجتمعين أغلبيةٌ في الأول وأقليةٌ في الثاني لفاقت مُنجزات أعضائها في الثاني وتعاونهم مجهودات من يُشابهونهم من أغلبية الأول.
 

وتميل الأقليات غالباً إلى تكييف أمورها مع السلطة سواء بالاتصال مُباشرةً أو بوساطة أو من خلال تكوينها جماعات مصالح تخدم أهداف السلطة الراعية لها أو كذراع يسعى لفرض فكرة الأقلية على الأكثرية عن طريق التحكم بمقاليد الحياة المُجتمعية من اقتصاد وسياسةٍ وإعلام.

 

أما وبالنسبة إلى الأقليات التي تسلك خط الصراع الدائم مع رؤوس السلطة فتنتظرها إما إبادة تامة أو ثورة شاملة معرفياً وسياسياً تُعدِّل من وضعهم في الهرم الاجتماعي وبين طبقاته.

 

وبوجهٍ عام فإن الأقلية المُضطهدة متى تنسمت رحيق الحُرية وأمسكت بمقاليد السُلطة فإنها تنقلب بدورها إلى اعتماد المُمارسات التي أوجبت بحقها دهراً لتُعممها. ليخالف كُل ذي فكرٍ ما تواتر من مبادئ ويضرب بعرض الحائط ما صحَّ لبصيرته من أفكار فينقلب المظلوم لتوه فوراً من مُضطَهَدٍ إلى جلاد يسوم العذاب والويلات مُبشراً بالتهلكة، داعياً حقاً للشرور والثبور.. يتبع

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.