شعار قسم مدونات

قصة هبوط وصعود.. الكهنة والعسكر

blogs - pharaoh King
الكهنة والعسكر من الدولة القديمة حتى الدولة الحديثة، وتبادل السلطة بين الحكم العسكري والسلطة الدينية. فنحن بطبيعتنا نميل إلى الحديث في الجزئيات ونتحاشى النظرة الكلية؛ ربما لإيماننا بعنصر المصادفة أو المفاجأة، وهل كانت كل الأحداث في حسبان أحد قبل أن تحدث بأحداثها ونتائجها، والأخطر أننا نتحدث عن المتغيرات على أننا ثوابت، وقالوا إنه لا توجد عداوات دائمة ولا صداقات دائمة، ولكن توجد مصالح دائما.
 
ومن هنا تبدأ الدائرة المفرغة في دورتها المفزعة، ففي غياب المعارضة المدنية، يؤدي الحكم العسكري إلى السلطة الدينية ولا ينتزع السلطة الدينية، إلا الانقلاب العسكري الذي يسلم الأمور بدوره بعد زمن يطول أو يقصر إلى سلطة دينية جديدة، وهكذا، وأحيانا يختصر البعض الطريق ويضعون العمامة على الزي العسكري كما حدث ويحدث في السودان. 

لم يكن رمسيس الثاني يحارب للفتح بل لاسترداد ما ضيعه إخناتون، وإن لم يستطع أن يبقى تحت سلطانه الفعلي إلا فلسطين ولبنان.

بقصد استخلاص العبر من تاريخ مصر، أوجزت قصة دولة كهنة طيبة الذين اختطفوا حكم مصر بعد أن غدروا بحكم حلفائهم العسكر وأسسوا الأسرة الواحدة والعشرين، ونهاية دولتهم بتقسيم مصر إلى دولتين دينية ومدنية، وحكم الأجانب لها ثم احتلالها، ثم أوجزت قصة صعود وسقوط حكم العسكر في الأسرة الثامنة عشر بعد دحر مصر للغزاة الهكسوس بقيادة أحمس الأول وتأسيس تحتمس الثالث للإمبراطورية المصرية التي تداعت حين سرح الفراعنة الجيوش وذهبت عنهم ريح البطولة العسكرية وغرقوا في بحبوحة الثراء، ودبت في نفوسهم الرخاوة، وفسدت أخلاقهم.

ثم بينت كيف أن القائد العسكري حور محب آخر ملوك الأسرة الثامنة عشر قد هيأ الأمور ليخلفه قائد جيوشه ووزيره رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشر المشبعة بالروح العسكرية، والتي أقالت مصر من عثرتها واستردت الكثير من مجدها الغابر، وعلى هدى نظام وقانون ماعت أي العدل والصدق والحق سار ابنه سيتي الأول في حكم البلاد وراعي مصالح العمال والفلاحين، فاستتب له النظام في الداخل وتمكن من استرداد ما ضيعه إخناتون من الإمبراطورية المصرية بسوء سياسته.

ونعرف من سليم حسن في الجزء السادس من موسوعة مصر القديمة والمعنون عصر رمسيس الثاني وقيام الإمبراطورية الثانية؛ أن عهد رمسيس الثاني ابن سيتي الأول كان عصر رخاء وثراء وعدالة تجلى فيما خلفه رمسيس الثاني من عمائر وآثار فريدة ومهيبة، ونقرأ في لوحة بمعبده أبو سمبل وصفا لحالة مصر وقتئذ على لسان الإله بتاح إني أمنحك نيلا عظيما وأجري علي الأرضين من أجلك ثروة ومحصولا وطعاما وأبذل الرخاء في أي مكان تطؤه وأني أمنحك حصادا دائما لتغذي الأرضين ومخازن غلالها تناهض السماء( في علوها).

وتدل الوثائق أن كل طبقات الشعب في ريف البلاد وصعيدها ومدنها وقراها؛ كانوا في عيش رغيد مما يشعر بأن عدالة ماعت كانت سائدة ومرعية ويخاطب رمسيس الثاني العمال بناة عمائره بما ينفي عملهم بالسخرة والعسف في عهده، فيقول الأغذية أمامكم وفيرة حتى أصبح لا يتلهف عليها أحد من بينكم، ولقد كفيت حوائجكم حتى لا يكون من بينكم من يمضي الليل يئن من الفقر، وحتى تعملوا بقلوب محبة عندما يكون البطن مملوءا.
 

أخذ المصري يتضرع لإله واحد ويعترف بما اقترف من ذنوب طالبا الرحمة عوضا عن نفي كل ذنب عنه.

ويقول كاتب من ذلك العهد عن عاصمة مصر، إن الإنسان ليبتهج بالسكنى فيها إذ لا ينقصها أدنى رغبة تخطر على بال، وقد تساوى فيها الصغير والعظيم، وأما أهل القرى والفلاحون، فكانت تحميهم عدالة ماعت من عسف الحكام وظلمهم، ينفذها وزير يسهر على راحة كل مواطن، وقد أحكمت أواصر المودة بين جنوب وشمال الوادي، ولذلك لم يقم أهل الجنوب بأية ثورة في عهده، وقد كان رمسيس الثاني مؤسس الإمبراطورية المصرية الثانية قائدا عسكريا محاربا تمتع بشهرة وعظمة وإن تضاءلت بالمقارنة مع تحتمس الثالث مؤسس الإمبراطورية المصرية الأولى، ولم يكن رمسيس الثاني يحارب للفتح بل لاسترداد ما ضيعه إخناتون، وإن لم يستطع أن يبقى تحت سلطانه الفعلي إلا فلسطين ولبنان.

وقد أجبر رمسيس الثاني عدوه ملك خيتا القوية وحلفائه على طلب الصلح وإبرام معاهدة تعد أقدم معاهدة للسلام في تاريخ العالم، وتدل شروطها على أن مصر كانت صاحبة اليد الطولى في إملاء فقراتها. كما شن حروبا على قوم جدد من البحر الأبيض المتوسط. وتقول النقوش إنه قد أهلك محاربين من سكان الأخضر العظيم، وبذلك أمضى الوجه البحري الليل نائما في سلام، وقد أصبحت بر رمسيس العاصمة السياسية الجديدة للإمبراطورية ملتقى كل حضارات الشرق والعالم المعروف وقتئذ، وجيء بالفنانين الأجانب للعمل فيها.

وفي عهده ازدادت روابط الود بين مصر وجيرانها بالتجارة، إذ كان لمصر أسطول عظيم يحمل لمصر خبرات البلاد الأجنبية، وأخذ المصري يجوب البلاد الأجنبية ويتعرف مجاهلها ويفتخر بمعرفة جغرافيتها وتخطيط بلدانها، واتسع أفق تفكيره جراء الاختلاط والمغامرة، وأخذت الألفاظ السامية تشق طريقها إلى اللغة المصرية، حتى أصبح من علامات المعرفة والثقافة أن يستعمل المتعلم الألفاظ السامية في حديثه ومخاطباته، وفتحت أبواب الجيش والوظائف الحكومية للأجانب الذين كانوا يهاجرون إلى مصر، وأخذ الدم المصري يختلط بعض الشيء بالدم الأجنبي في المدن وإن بقي الدم مصريا صميما في القرى حتى يومنا هذا.

وفي تلك الفترة من تاريخ البلاد وفدت عناصر أجنبية على مصر بلا انقطاع وأقامت في المدن المصرية الكبيرة بوصفهم أسرى حروب يستخدمون عبيدا أو تجارا وجنودا مرتزقة في الجيش المصري بجانب المستوطنين من البدو والوافدين من السودان.

وتعاقب الفراعنة على مرنبتاح ابن رمسيس الثاني في فترات متقاربة بالعنف تارة وبالمؤامرة تارة أخرى، فكانت عهد شقاء ومحن أدت بمصر إلى الهاوية، وطمع فيها أسيوي غاصب استولى عليها فترة من الزمن.

وفي العهد الذي تلا عصر رمسيس الثاني اختلط الدم المصري بدم الأقوام الذين كانوا يسكنون غربي مصر وهم اللوبيون، كما نجد نفس الظاهرة شائعة من جهة الحدود الشرقية، فقد اختلط الدم المصري بالدم السامي، ولكن على الرغم من كل هذا الاختلاط في الدم نجد أن المصري قد تغلب عقليا وخلقيا بما له من ثقافة قديمة ومدنية عريقة وطيدة الأركان ثابتة الدعائم على هؤلاء النزلاء وصبغهم بثقافته وجعلهم جزءا منه.

وسجل عصر الرعامسة الأول من التجديد والابتكار في مضمار الفنون والعلوم والأدب والدين ما ميزه عن غيره من العصور المصرية، ونهض الأدب نهضة عظيمة شعبية وكتب بالعامية السلسلة وتأثر الفن القديم بفن عهد إخناتون الذي كان يدعو للحرية وعدم التقيد بالتقاليد، وبقي لعقيدة التوحيد التي بشر بها إخناتون أثر بين في عبادة القوم، فأخذ المصري يتضرع لإله واحد ويعترف بما اقترف من ذنوب طالبا الرحمة عوضا عن نفي كل ذنب عنه.

ونعرف من سليم حسن في الجزء السابع من موسوعته المعنون عصر مرنبتاح ورمسيس الثالث ولمحة في تاريخ لوبية، أن الأحوال في أواخر عهد مرنبتاح ابن رمسيس الثاني كانت تنذر بسوء المنقلب لما حل بالبلاد من فقر جراء الحروب الطاحنة والقلاقل الداخلية بين أفراد الأسرة المالكة، إذ لم يكد يختفي عن مسرح الحياة حتى قام التطاحن على عرش البلاد وتعاقب الفراعنة عليه في فترات متقاربة بالعنف تارة وبالمؤامرة تارة أخرى، فكانت عهد شقاء ومحن أدت بمصر إلى الهاوية، وطمع فيها أسيوي غاصب استولى عليها فترة من الزمن إلى أن هب المصريون وعلى رأسهم الفرعون ستنخت أحد أبناء مصر الأماجد فخلص البلاد من حكم هذا الأجنبي. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.