شعار قسم مدونات

الأكثريّة (2)

blogs - graph

في الجزء الأوّل من هذه التدوينات تكلمت حول اندماج مركّب الأكثريّة/الأقليّة الصميم في السياسة وفق تصوّر معيّن لهذا المركّب. وأتابع هنا إيراد جملة من الأفكار حول هذا الموضوع.

 

إنّ الإحصاء، والذي يُعتبر وظيفة أساسيّة وأوليّة وقديمة للدولة، وتطوّره، شكّل على سبيل المثال عاملًا مهمًا في تعيّن وتأطر الاكثريّة والأقليّة على حدّ سواء، لا في خلق الوعي بهما ابتداءً. هذا بالطبع إلى جانب كلّ التغيّرات الأخرى فيما يتعلّق بفلسفات وتنظيرات وهياكل ووظائف السياسيّ والدولتيّ.

 

السعي لفرض الاعتقاد بوجود أكثريّة ما مؤيّدة لحكم أسرة أو سلالة وفق مقدّمات مقدّسة أو غير مقدّسة هو اشتغال السياسة الأثير، برأيي، والذي لم يتغيّر

وتناول الإحصاء هنا مفيد كما أحسب على وجه خاصّ لأنّه جانب تقنيّ رياضيّ -مخموج بالتحيّز- ما كان لكثير من الجوانب النظريّة الفكريّة أن تنضج لولاه، وهو اليوم لا يقع فقط في صميم وظائف الدولة من إحصائها للأنفس والملكيّة، بل، وهنا ندلف إلى مسألة الاكثريّة/الاقليّة في الحديث، صار يقع في صميم إحصاء "الرأي والمزاج" السياسيّ والأخلاقيّ والفلسفيّ والدينيّ، ويمتّد إلى إحصاء ما يتعلق بالهوى والعادات والرغبات والمشاعر، إنّ هذا الأمر سمح جنبًا إلى جنب مع تطور التنظيمات السياسيّة  بتأطير الأكثريّة والأقليّة عبر القدرة الهائلة على إحصاء كلتيهما بدقة وسرعة، في ظرف يوم انتخابيّ أو استفتائيّ واحد، وهذا يعني تعيّن الأكثريّة وأغلبيّاتها أكثر، وبالتالي تعيّن الاقليّات أكثر.

 

بالمقارنة مع ما  قبل الحديث، كما لو كنّا نتحدّث عن أحقاب منفصمة جدلًا، وكما يقول بيار بورديو، في الماضي كان يُقال بأنّ الإله معنا واليوم يُقال بأنّ الأكثريّة أو الأغلبيّة معنا -وفي الحقيقة لا أوافق على مضمون هذا الكلام والذي أراه مبالغة مقصودة لغرض التشخيص فقط-؛ بالمقارنة فإنّ إحصاء الرأي والمزاج، كما أسميّه، جعل هذه الاكثريّة أكثر ماديّة وتعيّنا، جعلها أكثر رقميّة، ملموسةً، وصارت تتمثل وفق مشهد استعراضيّ في البرلمانات والمؤتمرات الحزبيّة والانتخابيّة التي نفهم من خلالها مثلًا بأنّ هذا التيّار أو هذا الرجل هو المتغلّب والقويّ.

 

إنّ هذا هو ما يعطي القوّة والسلطة المضافة لسلطات وقوّات سابقة للعمليّة الانتخابيّة وخاضعة في الحقيقة لجملة معقدة من علاقات القوى والتفاوض الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والنزاعات والنقاشات الفكريّة والمذهبيّة. وهذا الأخير في جوهره كان موجودًا في السابق، ما قبل الحديث إنْ صحّ التعبير، فالأمّة، بوصفها جماعة سياسيّة، تبقى في حقيقة الأمر ضربًا من الجماعة الوهميّة أو المتخيّلة في النهاية المعبر عنها في السياسيّ النشط، وهي بهذا المعنى تحوي -لتكون أمّة سياسية لا أمّة صافيّة أو مفردة أو خاملة- أكثريّة بينها أقليّات، والاكثريّة مزيج من متعيّن ومتوّهم في الوقت نفسه، ويتم إدراكه من الطرفين، الأكثريّة والأقليّات، الاقليّات أكانت راضية أم ساخطة.

 

وما أريده هنا أنّ ادعاء الأكثريّة في الماضي كان التوّهم الظاهر فيه أكثر من الحديث، لأنّه لم يكن من السهل إحصاؤه وتوثيقه، أو قل كان من المستحيل ذلك، إلّا أنّ ذلك لا يعني غياب هذا الفاعل والمكوّن السياسيّ، ولا يعني قصوره، لا سيما بالمعنى الإيجابيّ، وإنّما يعني فقط عدم تأطره ومأسسته على نحو ما نعلم، وربّما لذلك فوضى الادعاء فيه. وإذ كان يأخذ صبغة مقدّسة أو دينيّة فهو يضيفها بالضرورة إلى كون اتباعها كثيرين أو أنهم يصبحون كثيرين وأقوياء، أو العكس إنّ أكثريّة ما تدّعي أنّ ما هي عليه هو المقدّس والصراط،  أي هو ليس ادعاءً صافيًا يتمّ له الاقرار والخضوع بالمعنى السياسيّ منعزلًا عن عوامل القوّة والتي من بينها الكثرة، وهو ادعاء قد يتضمّن مثلّا أن "الأسرة الحاكمة" وإنْ  كانت "حكم قلّة" أو "حكم سلالة"، لكنها ممثلة لأمّة أكثريتها لها صفات محددة متعيّنة أو متخيّلة، وهذه الاكثريّة هي ضرب من الجماعة السياسيّة التي بها وعليها يقوم بنيان الدولة في المركز وفي الأطراف، ويتم التعامل من خلاله مع أقليّات مختلفة.

 

ونتيجة لقصور وسائل ووظائف الدولة في تلك الحقبة كان يتّم التخاطب عبر رؤوس القبائل والطوائف والنواحي، وضمن هذا يعني دومًا تضمين صفة المخاطب لكونه ينتمي لأكثريّة أو أقليّة لأنّه يخاطب من خلال ممثل مجموعته كمُغفل وليس بوصفه فردًا معتبرًا -وهذه العبارة الاخيرة لا تعني بالمرّة بأنّ الدولة الحديثة تسقط من اعتباريّة الفرد كونه عضوًا في أقليّة ما وإنّما فقط يذكّر بعدم سذاجة الدولة والسياسيّ في القديم عن هذه المسألة مقارنة بالحديث-.

 

وكانت تختلف شروط وطبائع التعامل، بين شدّة ورفق، ولكن الأمر لا ينفصل عن وجود أكثرية واحدة توافقت على النظام السياسيّ القائم، حكم الأسرة هنا بما يدعيه من تمثيل لمرجعيّة ما تعني الأكثريّة، ويكون توافقها سالبًا أو موجبًا، مقابل أقليّات راضية أو ساخطة، تدخل الصراعات معها حالات احتواء وحالات امتيازات وحالات حروب وقمع. وحين نميل لضرب مثال الأكثريّة/الأقليّة من منظور المذهب والدين فلأنّ المسألة الطائفيّة تشكل هاجسًا راهنا ومسألة سياسيّة ملّحة وممتازة، وإلّا فإنّها ليس العامل الوحيد المشكل لهذا المركب.

 

إنّ السعي لفرض الاعتقاد بوجود أكثريّة ما مؤيّدة لحكم أسرة أو سلالة وفق مقدّمات مقدّسة أو غير مقدّسة هو اشتغال السياسة الأثير، برأيي، والذي لم يتغيّر. فنحن لا نحكم بوصفنا عثمانيّين أو قرشيّين فقط، ولا نحكم فقط لأنّ لنا حقّ التغلب أو أهليّة النسب أو تفويض الكتاب؛ نحن أيضًا نرعى دين ودنيا "العامة"، الأمّة، ونسوسهم بما ارتضوه -ارتضته أكثريّتهم- من دين وشريعة، ونحن نمثل هذه الأكثريّة وهذه الأكثريّة لنا. هذا جهاز سياسيّ بسيط ولم يتغيّر، وبطبيعة الحال يتم تحديد آخر وخصم من الخارج والداخل، ويتم تحدّد "أقليّات" من الداخل، موالية أو مجافية أو معادية. لا أرى أنّه ثمّة اختلاف من حيث المبدأ.

 

وليس صحيحًا بالمرّة بأنّ تلك الأمم وتلك الدول لم تمثل هويّة عامة سائدة بعينها، وأنّ وجود الأقليّات بينها كان مسألة طبيعية مُغفلة، التصادم معها غير مقصود، أو أنّه تصادم تصادفيّ أو برئ، ولا يدخل في آليّات صناعة السياسيّ. هذا أمرٌ منكر، أعني نفيه المطلق أو شبه المطلق أو نفيه الحاد المعتبر، عبر محاولة توجيه أشدّ النقد للدولة الحديثة، والتي يحلو لي نقدها بالمناسبة، لكن دون الحاجة لما سبق.

 

لو حصرنا الإشكال بدولة حديثة، أو قلنا أنّه بشكله الأسوأ هو صنيعة هذه الدولة الحديثة والكولنياليّة فقط؛ فلا يعود هناك أيّ معنى لتبني الناس مذاهب سياسيّة ودينيّة وأخلاقيّة وفلسفيّة

ومن أمثلة ذلك اعتبار أنّ مسألة توظيف الخلاف المذهبيّ، هو مسألة مفتعلة بقدر متغاير بين بعض الدارسين، في التاريخ الإسلاميّ، وفي تاريخ الصراع العثمانيّ الصفويّ كمثال، كونه الآن يمثل المتبقي إلى حدّ ما من الصراع دينيّ الطباع الصريح والمتفاقم،  بمعنى عدم وجود -أو وجود قليل الأهميّة لــ- مفاعيل موجبة لهذا الخلاف بالمرّة، وبالتالي إهمال ثنائيّ الجانب للطائفيّة البينية والداخليّة في الحالتين، رغم وضوح الأمثلة التاريخيّة على وجود المفاعيل الموجبة، عبر قمع وعزل جماعات وطوائف وملاحقتها، وهذا ليس التظاهر الوحيد في آليات تصنيع الأكثريّة على أيّ حال.

 

وإنّ المسألة لم تتوقف على صراع شيعيّ سنيّ مثلًا، ولا أمويّ وعباسيّ، وهي كلّها صراعات سياسيّة يُدّعى فيها الأكثريّة والأقليّة، وتنتج عنها حروب ومظالم تنال من أعضاء الأكثريّة والأقليّات؛ بل تتعداها إلى مذاهب داخل سنيّة من جهة، وداخل شيعيّة، يدّعي كلّ منها الأكثريّة له والأقليّة للآخر. وإلّا، لو حصرنا الإشكال بدولة حديثة، أو قلنا أنّه بشكله الأسوأ هو صنيعة هذه الدولة الحديثة وصنيعة الكولنياليّة فقط؛ فلا يعود هناك أيّ معنى لتبني الناس لمذاهب سياسيّة ودينيّة وأخلاقيّة وفلسفيّة، والدعوة لها، والدفاع عنها، وفق آليّات تفضي لتصنيع الاكثريّة/الأقليّات في كلّ ظرف وشرط.

 

تبقى لديّ تساؤلات وأفكار تتعلق بطبيعة ما يسمّى "الأكثريّة السياسيّة" في النظم الديمقراطيّة وإن كانت في الجوهر تمثل مغادرة فعليّة لمقوّمات ومحددّات الأكثريّة القبْليّة، ذات الطابع الهوياتيّ الماهويّ من عرقيّ ولغويّ وثقافيّ ودينيّ ذي بعد تاريخيّ، "تراثيّ"، التي قام عليها النظام السياسيّ لدولة قوميّة؛ هويّة هذه الدولة وهذه الامّة. وإذا ما كان هذا المعنى يمثّل حلًّا ناجعًا -مطبقًا أو مدعًى- لعزل الماهويّة من معنى الهويّة في تعريف أكثريّة وأقليّات ثابتة، وبالتالي مشاكل التمييز والأخرنة والعزل والطمس والصهر والدمج ضدّ الأقليّات وضدّ هويّاتها، واختبار صدقيّة وجديّة "التحمّل" للآخر، دع عنك "التقبّل".

 

وعطفًا عليه فيما يتعلّق بتمايز وتحيّز الأكثريّة أكثر فأكثر حال تنامي الأقليّات عددًا أو أثرًا أو انتشارًا، وذلك حتى في النظم الديمقراطيّة، وتسامحها حال كون الأقليّات لا تتجاوز وضعها المتوّقع أو الذي لا يُلاحظ، أي لا تنافس على مقوّمات ومصادر ومواقع وهويّة الأكثريّة، الأكثريّة بمفهومها الذي وضحته في الجزء الأوّل. وهذا سأقترب منه في التدوينة القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.