شعار قسم مدونات

أين الله؟ الله في حلب

People carry belongings as they walk on the rubble of damaged buildings in the government controlled area of Aleppo, Syria December 17, 2016. REUTERS/ Omar Sanadiki
تتعالى الأصوات المنادية حُزناً على ما يَحصل في حلب، من قتلٍ وتدميرٍ وتهجير. كما بلغت القلوب الحناجر، وغصّت الأماني والحِيَلْ في حُنجرة السؤال والواقع، ماذا عسانا نفعل؟ ولكنّهم "وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا".

 

لا أُنكر جلل الموقف والحادث، ولستُ أُقلل من قدر المعاناة وحجمها، فهؤلاء هم أهلي وعشيرتي، وتلك هي بلدتي ومربط فؤادي، التي باتت ركاماً متساوياً مع الأرض، تقف في زاويتها لترى آخرها، كأنّ أحداً لم يمرّ بها بعد! أو كأنّ قدمَ ديناصورٍ ما قد استلقى فيها فاختفت!

 

أسمع أصوات أحبابنا الذين سبقونا في درب الحرية تتعالى رغم صمتها الموحش ورجالها في الطرقات تسير أرواحهم تعانقها فلا تكادُ تُغادر حبة رملٍ منها

في داخل حلب خاصة وسورية عامة يعيشون من الألم والخوف ما يَعيشون، من المجهول والغدر الذي يَحيق بهم مع أشخاصٍ "لا يرقبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذِمّة"، وما كانت تلك المحن إلّا لتزيد من عزائم الرجال لتشتد حول دائرة الأصل، وتعود إلى منبع رشدها وهَديها.. فأين لهذا ذلك؟ ومن لها؟

 

لست لأقول كلماتي هذه مكابرةً على جِراحِ الآخرين، فكان الله في العون، ولست ممن يحب أن يَزيد نظرة الحُزن والضيق، حتى تكاد تَعمى بها البصائر والأفئدة، بل أتمنى أن نخرج من دائرة الحزن التي أوقعنا اليأس فيها، ففي ذلك جهادٌ من نوعٍ مختلف نُصارعه مع أنفسنا، كي نثبت ونحن خارج البقعة الجغرافية تلك، ففي بأسهم وشدة الواقع ما قد يمسّنا.

 

أؤمن أنّ الأمر لا يَعدو فقد الحجر والبشر، ولا دمار العمران والديار، ولا حتى أن تقف بجانب هذا الفصيل أو ذلك الفيلق، بل هنالك أمورٌ أعم وأكبر من كل ذلك، هي موقفك أنتَ تجاه عقيدتك وفِكرك ودينك، تجاه إنسانيتك ونفسك ومن حولك، تجاه وطنك وأهلك ومن تحب، وهو ما تحض عليه الشريعة الإسلامية في علم الفقه بما يُعرف "بالمقاصد الشرعية" والتي تُعنى بحفظ الضرورات الخمسة للفرد (النفس، الدين، النسل، العقل، المال) فهذه الخمسة هي أساسٌ لكل إنسان، يجب عليه أن يُحافظ عليها سواءٌ من نفسه أو ممن حوله. فهل ما يحصل في حلب خاصة وسوريا وغيرها عامةً حلالٌ على الأنفس؟ تُراعى به حُرمة الدين؟ هل يُحفظ بذلك النسل؟ وهل يرضاه العقل؟ وهل هو مَحفَظةٌ للمال؟ أيٌّ عَقلٍ على هذه الأسئلة الرئيسة ويقول: نعم!

 

حي الكلاسة حارتي ومنطقتي، ككثير من أحياء حلب باتت فارغة الآن من أهلها! أسمع أصوات أحبابنا الذين سبقونا في درب الحرية تتعالى فيها رغم صمتها الموحش.. ورجالها في الطرقات تسير أرواحهم تعانقها.. فلا تكادُ تُغادر حبة رملٍ منها! رغم تعاقب الطغيان.. رغم الخوف.. رغم عودة الحرية من جديد.. لن تهدأ هذه الأرواح وستبقى تنتفض حتى تنالها.. وهي تعلّم الحرية لأشخاص لم يعلمون كيف كان هؤلاء يواجهون الموت وهم عراة الصدور..

 

ليس هذا الكلام تفاؤلاً وحسب.. وليس لهدهدة النفس.. إنما هو التاريخ.. وهو وعد الله للصالحين والعاملين لأجل حرية الدرب إليه.. وحاشا أن يخلف الله وعده، ولو بعد حين…

"برغم القيد والسجان لم أحقد على بلدي

برغم السور والتعتيم والطعنات في كبدي

سأحيا رافع الرأس ولو سُربلت في الكفن"

 

أرى الله سبحانه وتعالى في رحمته ولطفه.. كلنا دعونا: يا رب نستودعك إياهم، فكانت الوديعة بحفظ أنفسهم وثباتها، وإما بارتقائها إليه!

يا حلب..

لم تَعد أغنية تراثك "والعزّ انسكب ع ادراجك يا حلب" بل "والدم انسكب" ولم يَعد أهلك الطيّبون مقيمين فيكِ.. حتى باغتهم الرمق الأخير.. يسألون: أين الله عنكِ؟ ونقول: هو في كل مكان، في كل زاويةٍ فيكِ.. يَرقبُ الأطراف كيف تفعل، يترقب الأيدي التي ستُرفع إليه بالدعاء، الأيدي التي ستُطلق آخر رصاصة وصَيحة حتى غُلبَتْ على أمرها وهي تَدعو الله في قلبها أنها ستعود، عن القلوب التي ضمّنت عهدها مع خالقها وهي موقنة أنّ "وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" الأنفال:63

 

أجد الله سبحانه وتعالى في المناطق القابعة تحت سيطرة النظام، وهي تحتفل بالنصر، النصر الذي أُقيمَ على أشلاء اخوتهم، كيف يكون طعم فرحهم؟ ومنهم من عاش في المناطق المحررة ومن حولهم يعرفون أنهم يوالون النظام "عاطفةً وخوفاً" لكنّهم لم يعاملوهم بالمثل.. عن أيِّ أمنٍ وأمانٍ نتحدث؟

 

أرى الله سبحانه وتعالى في رحمته ولطفه.. كلنا دعونا: يا رب نستودعك إياهم، فكانت الوديعة بحفظ أنفسهم وثباتها، وإما بارتقائها إليه!

 

ونختم قولنا بما نُقلَ إلينا من كتب التراث:

قال رجل: ربّ.. كم أعصيك ولا تعاقبني؟

قال الله: عبدي.. كم أعاقبك ولا تشعر!

 

فهل بقيَ سؤالك: أين الله؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.