شعار قسم مدونات

النداء الأخير

blogs-حلب

العبارة التي يبدو أنّه لم يستوعبها أحد إلى الآن، لا العرب ولا غيرهم، الشباب السوري الثائر الذي أطلق من داخل حلب الصامدة عدة صيحات وتمت عنونتها بـ "النداء الأخير".

 

ما هو النداء الأخير؟ 

ما من سوري إلّا ويعلم في قرارة نفسه أن ترك حماه سنة 1982 كان عذابا لسوريا بأكملها، وهذه الثلّة القليلة المحاصرة الآن داخل 2 كم، تعرف بأنّ ترك حلب هو عذاب للأمة العربية بأكملها، هي آخر نقطة ستحدد لنا مستقبلنا القريب "كأمة عربية"، وانحداره العاموديّ نحو هاوية محتّمة، لكنّ أحد لا يفهم ذلك. كم يمسحُ اليوم على وجهِ العالم، وعلى جبين العرب خاصةً، لعلّ أحدهم يصحو، يقف، يتحرّك، يُنادي، يُدرك بأنّ حلب باباً إذا خسرنا مفتاحه، فهناك مأساة كبيرة قادمة لا محالة.

 

حلب ليست بعيدة، إنها هاهنا تمشي بيننا، تُذكّرنا بالصباح، وتمسحُ لنا على وجوهنا آخر الليل، إنها قريبة جدًا، لكننا نحن من نسيرُ بكامل إصرارنا بعيداً عنها، حلب، ويبدو أننا يوماً ما، سنندمُ على قلّة الكرامة.

مظاهرات لأجل حلب تلك!، أم فرض كفاية، مئتان من المتظاهرين في عمان العاصمة، لأجل الآلاف من المحاصرين داخل حلب، وكذلك مصر وقطر والسعودية و..، نعم يبدو أن ذلك أشبه بفرض الكفاية، وربّما لدى البعض، سنة غير مؤكدة، وستبقى غير مؤكدة حتى يصحو يوماً ما ويرى الدماء التي تسيل على شرشفِ نومهِ، أو على وجوه أطفاله.

 

فهمت إدلب أن خط الدفاع الأخير هو حلب، ولم تفهم مكة ولا إسطنبول ذلك، أنّ سوريا هي خط الدفاع الأخير عن مخطط اخترقنا جميعاً، وبتنا نمشي بداخله دون أن نشعر، أو ربما نشعر فيه جيداً، لكننا لا نبالي طالما أننا بعيدون ولو بضعة أمتار عن تلك المخططات. ليتَ هذا العالم بأكمله يتفق على ألا ينام الليلة في سريره، ليته ينزل إلى الشارع، ويصرخُ لحلب، حتى وإن كان لا جدوى من ذلك، على الأقل، هناك من سيموت مبتسماً حين يرى من يتضامن معه، يتألّم لأجله، ويشعر به.

 

حلب ليست بعيدة، إنها هاهنا تمشي بيننا، تُذكّرنا بالصباح، وتمسحُ لنا على وجوهنا آخر الليل، إنها قريبة جدًا، لكننا نحن من نسيرُ بكامل إصرارنا بعيداً عنها، حلب، ويبدو أننا يوماً ما، سنندمُ على قلّة الكرامة.

 

سبعون ألف من البشر، في تلك المساحة الجغرافية الضيّقة، إنّهم يبتلعون الآن أخطر منطقة في العالم، وبعد ذلك سيخرجون، لكن تلك المدينة الأخطر في العالم، لن تخرج من داخلهم، ستبقى ما بقوا أحياء. نصفُ السوريون خارج سوريا، في داخل كل شخص منهم قصة ومدينة وربما مجزرة، بقيت داخله، تلك المجزرة في حنجرته كلّ يوم تذكره بأشقائه الذين يموتون الآن في حلب، ولا أحد يسمع صراخهم.

 

حلب، وما بعد النداء الأخير الذي لم يُثمر سوى الحافلات الخضراء التي بدأت بنقل ما يقارب السبعون ألف سوري خارج المدينة، هذا ما تبقى من نداء أهلنا هناك، أطفالٌ مازالوا يسقطون في كل دقيقة، وشهداءٌ في كلّ مكان، وهذا العالم يبتلع إصراره على أن يتابع انحداره نحو هاوية جديدة.

 

حلب، وانتهى النداء الأخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.