شعار قسم مدونات

7 محطات من حلب

blogs - Russian President Vladimir Putin makes a speech at a Japanese-Russian business dialogue meeting in Tokyo, Japan, December 16, 2016. REUTERS/Kim Kyung-Hoon

في مشهد حلب الدامي تستوقفنا عدة محطات مهمة، منها هذه السبع:

1- غياب بشار الأسد ونظامه من الصورة؛ فلم يعودا إلا لوحة باهتة جدًّا موضوعة على جدار سوريا لا تلفت انتباه أحد، ولا ينظر إليها كائن من كان؛ فاللاعب الأساسي من جهة النظام في سوريا هما روسيا وإيران؛ فهما من يسيران الأحداث، وهما من يقرران، حتى عندما اختلفت الآراء حول اتفاق إجلاء المدنيين من حلب الشرقية كان الخلاف بين روسيا وإيران؛ فهما من يختلفان في ما بينهما حين تتعارض مصالحهما على الأرض، ولا وجود لبشار أو أي طرف من نظامه.

 

2- بدء ظهور الخلاف الروسي الإيراني إلى العلن؛ إذ بالرغم من أنهما قد اتفقا على منع انتصار المعارضة والحفاظ على صورة بشار كرئيس ولو صوري لسوريا، إلا أن اختلاف أهدافهما وغاياتهما من التواجد في سوريا وصل بهما إلى الخلاف الذي ظهر إلى العلن بقوة مع اتفاق إخلاء المدنيين من مناطق حلب الشرقية، هذا الاتفاق الذي سعت ميليشيا إيران بأنواعها إلى منع تنفيذه، الأمر الذي أدى إلى تهديد روسيا صراحة بضرب كل الأطراف التي تحاول عرقلة تنفيذ الاتفاق سواء كانت من المعارضة أو من مؤيدي النظام، ما يدل على أن الخلاف لم يعد خافياً، وإنما بدا ظاهراً تبعاً لاختلاف مصالحهما في سوريا.   

 

وتلوح في الأفق ملامح خلاف جديد سيحدث قريباً إن تمت عملية إجلاء المدنيين السوريين إلى منطقة إدلب؛ إذ تصرح روسيا بوضوح إلى سعيها لاتفاقية وقف إطلاق نار تشمل سوريا كاملة، وإلى بدء مفاوضات سلام شاملة، في حين نجد تصريحات قادة ميليشيا إيران في سوريا تشير إلى قرب المعركة الكبرى للقضاء على "المكوِّن السني" في سوريا الذي يتم تجميعه في إدلب.

 

3- غياب اللاعب الأمريكي في سوريا، وفي المنطقة؛ بل في العالم كله، وهذا ليس أمراً غريباً أو مفاجئاً، ففي الحقيقة أن مرحلة أوباما كلها شهدت تراجعاً واضحاً للدور الأمريكي في العالم، وقد أشرت لهذا منذ أكثر من عام في مقالي الذي نشرته وكان بعنوان: أوباما: أرى.. أسمع.. لا أفعل

وقد بدا هذا الغياب جليًّا في حلب؛ فلا أحد ينظر تجاه الولايات المتحدة، ولا أحد ينتظر منهم قولاً بَلْهَ أن ينتظر فعلاً.

 

4- ظهور لاعبين جدد في المنطقة، وعلى الرغم من تفاوت قوة تواجدهم إلا أنهم تواجدوا؛ فسمعنا صوت فرنسا وبريطانيا وتركيا؛ فهل هذا إيذان بظهور قوة جديدة تملأ مكان الغياب الأمريكي؟
 

5- بروز تركيا كقوة فاعلة ومؤثرة في سوريا؛ فبالإضافة إلى دورها العسكري المباشر والواضح عبر عملية "درع الفرات" التي تحارب فيه تركيا إلى جانب الجيش السوري الحر ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف إعلاميًّا بـ"داعش"، ظهر دورها الكبير في إنجاز اتفاق إجلاء المدنيين من حلب الشرقية، ولا أكون مبالغاً إذا قلت أن تركيا هي من صاغت الاتفاق، وتفاوضت فيه مع روسيا، واتفقت معهم عليه بالرغم من اعتراض إيران عبر ميليشياتها على الأرض السورية.

 

تركيا اليوم تفرض نفسها فعليًّا وواقعيًّا في سوريا والعراق لتؤمِّن حدودها، وتسعى للعب أدوار عدة عالميًّا ربما كرد فعل على تجاهل الاتحاد الأوروبي لطلب انضمامها إليه؛ فتتجاوز الاتحاد الأوروبي وجوداً وتأثيراً.

 

6- انكشاف الوجوه وسقوط جميع الأقنعة؛ وذلك على نطاقين:

أكذوبة دعوى روسيا بأن تدخلها المباشر كان للقضاء على الإرهاب المتمثل في "داعش"؛ فالحاصل على أرض الواقع يؤكد أن التدخل ما كان إلا لتثبيت نظام بشار في سوريا، وليس هذا بالطبع من أجل سواد عينيه؛ وإنما لتحقق روسيا من ورائه مصالحها في السيادة والسيطرة، وأن يكون لها موطئ قدم وتواجداً حقيقيًّا وقويًّا في المنطقة.

 

أما "داعش"؛ ففي ظل التركيز على حلب نجدها تدخل تدمر الأثرية وتحتلها، ولا أحد يلتفت لها أو يحاربها أو يمنعها من فعل ما تريد؛ فلا هي المقصودة، ولا هي التي عليها العين. 

 

غطاء عدم وجود خلاف سني شيعي قد انكشف تماماً، وهو بالرغم من انكشافه مبكراً في الخليج العربي، ثم في العراق، ثم في سوريا واليمن، إلا أن أحداث حلب حققت قول المتنبي "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي… وأسمعت كلماتي من به صممُ"، فأحداث حلب جعلت الأعمى يبصر الدور الإيراني الطائفي، والأصم يسمع الصوت الشيعي العنصري.

 

إن ميليشيا "النجباء" و"فاطميون" و"الخراساني" و"حزب الله اللبناني" و"حزب الله العراقي" و"الشيعة الأفغان" وغيرها من ميليشيات لم تدع مجالاً للشك في أن هدف المحور الشيعي هو إحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة لصالح التواجد الشيعي على حساب المكوِّن السني، وهو ما تحاول فعله منذ سنوات ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية في العراق، وجاء الدور على ميليشيا الشيعة المتواجدة في الأرض السورية لتقوم بدورها في هذا السياق، وهي تسعى لفعل هذا مذ وطأت أقدامها أرض سوريا، لكنها اليوم أكثر وضوحاً وجلاء، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما هم يُعِدُّون العُدَّة الآن للمعركة الكبرى ضد السنة في إدلب، كما أشرت سابقاً.

 

لقد تعرضت حلب للغزو الفارسي الساساني إبان حكم كسرى عام 540م، واليوم تعود لتتعرض لغزو فارسي جديد إبان حكم الروافض في إيران.

 

7- إن تم اتفاق إجلاء المدنيين من حلب الشرقية إلى منطقة أخرى في سوريا سيصبح هؤلاء الحلبيون لاجئين في بلادهم!

 

والحقيقة أن فكرة "لاجئون في بلادهم" ليست بدعاً في المنطقة العربية؛ غير أن وتيرتها تسارعت في السنوات الأخيرة، ففي العراق وليبيا واليمن حالات وحالات من هؤلاء المهَجَّرين اللاجئين في بلادهم.

 

ويعتبر الفلسطينيون أصحاب السبق في نيل لقب "اللاجئون في بلادهم"؛ إذ شهدوا موجات عدة من اللجوء، وحظي عدد كبير منهم بأكثر من لجوء في بلاده؛ فمن لجوء بسبب الميليشيات الصهيونية قبل حرب 1948م، إلى اللجوء بسبب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1984م وما تلاها من أحداث، وصولاً إلى لجوء حرب 1967م وما أعقبها من أمور.

 

كم هو قاسٍ لقب "لاجئ في بلدي"؛ فأنت في بلدك لكنك لست في دارك، مواطن بيد أنك غير كامل المواطنة.

لكن هل هذا اللقب أفضل من لقب لاجئ في بلدٍ أخرى؟

من جهة، المرء وإن كان لاجئاً في بلده إلا أنه ما زال في بلده يشتم عبيرها، ويلثم أرضها متى شاء، أما اللاجئ خارجها فإضافة إلى اضطراره الحياة في بلد جديدة لا يعلم عنها شيئاً؛ فهو يفتقد كذلك نسيم بلده وعبقها. 

 

ومن جهة أخرى، ربما يكون اللجوء داخل البلاد أقسى وأصعب؛ فالذي خارج بلده تكون الرؤية واضحة أمامه، هو خارج بلده، شاء أم أبى أصبح هذا أمراً واقعاً عليه أن يتقبله ويتعامل معه وأن يتعود على آلام الفراق والغربة، وأن يبدأ بتكوين حياته الجديدة وفق هذه المعطيات، أما اللاجئ داخل بلده فهذا كالمعلَّق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، هل يكوِّن حياته الجديدة أم ينتظر العودة لبلده؟ إنه يتحمَّل آلام الفرقة وهو غير مفارق، ويقاسي أوجاع الغربة ولو ليس بمغترب، إنها مقاساة من نوع مختلف لا يعرفها إلا من ذاق مرارتها وعاناها.         

      

أخيراً.. هذه محطات سبع لبلدٍ "موصولة النزفِ، تُبدي ولا تُخفي" كما يقول أحمد مطر رحمه الله، وما حلب بالوضع الشاذ في أمتنا النازفة بكل أسف؛ فحيث نظرت تاريخاً أو جغرافية تجد جرحاً، وكلما قارب على الالتئام يظهر من ينكأه.

 

حلب تُباد! لا، حلب لن تباد، وستبقى حلب كما بقيت أمام الحيثيين والفارسيين والبيزنطيين والفرنسيين وغيرهم وغيرهم، بقيت هي وذهب كل هؤلاء، واليوم ستبقى حلب ويفنى هؤلاء.

وصدق المعري حين قال: حلب للواردِ جنةُ عدنٍ … وهي للغادرين نارُ سعيرِ  

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.