شعار قسم مدونات

محمد الزواري.. نهاية مقاوم خفيّ

blogs- القسام
للشهداء سرٌ خفي، كأنهم مذ ولدوا منذورون لباب الله العالي، فقط منذورون للشهادة.. منذ بداية رؤيتك لهم يمكنك أن تعرفهم، لا يخيبون ظنك، إن فعلوا فكل ما في الأمر أن أسماءهم مؤجلةٌ للمعركة التالية.. صرت تعرف، ليس سهلا أبداً أن تكون شهيداً حقاً في المعركة المُحقة، هناك من هرموا وهم يحاولون ذلك فعلا ولمّا بعد: لم يبلغوا..".
 

قد تسأل فعلا هل الشهداء يوحى لهم.. ربما تراهم منهمكين كأنهم ينجزون آخر ما عليهم ليلحقوا.. الأتقياء، الأخفياء، الأبرار" كما جاء في حديث النبي الكريم الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا وإذا حضروا لم يُعرفوا، فقط هو الله الذي يعرفهم أو ربما هم من يرونه دائما ويعرفونه مع كل يوم مضاف لهم في حياتهم..
 

"محمد الزواري" مات ليحفر فينا مكانه بيديه.. يرحل خفيفاً، نودعه فيتدفق فينا مشهده المخضب بالدماء، ننصب له شاهدًا في القلب، عليه اسمه.

"محمد الزواري" اسم ربما لم نسمع له من قبل حسيسا، وربما كان يمكن أن يكون رقما مثل كل الأرقام التي ترحل عنا يوميا، طبعا لا نحفظها ولا نكتب عنها، فقط ندعو لها بالرحمة إن استطعنا، لكن مهندس الطيران التونسي أعاد زمن الأساطير في زمن السيرة الذاتية وزمن المقاومة في زمن انحطاط البوصلة ومنحنا جرعة جديدة من النصر في زمن الهزائم الكبرى..
 

ولد البطل القسامي التونسي عام 1967 في صفاقس عاصمة الجنوب، وعمل طيّاراً في شركة الخطوط التونسية قبل أن يفرّ من مطاردة نظام بن علي إلى ليبيا ثم السودان ثم سوريا، أين انضم إلى كتائب الشهيد عز الدين القسام وأفادهم بطفرة علمه ونبوغه في ميدان صناعة الطائرات، ليعود الزواري إلى تونس نهائياً بعد الثورة، ويسجّل في مرحلة الدكتوراه بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس حيث قدم في مشروع تخرجه "طائرة بدون طيّار" وهي موجودة إلى الآن، كما أسّس كذلك "نادي الطيران النموذجي بصفاقس..".
 

ربما الحديث كثيرا عن سيرة الشهيد ليس هو المغزى في مقامنا هذا، فيكفيك أن تعرف أن "الموساد" هو من قتل مقاوما لم يخض معها حربا مباشرة يوما ما، فقط طائرات "الأبابيل" كانت هي أيقونته الكبرى والأولى في حرب غزة الأخيرة، ليعلمنا معنى جديدا للمقاومة والشهادة..
 

قضى محمد الزواري في مسقط رأسه صفاقس ليعيد لنا من جديد ذكريات ظنناها خلت وخاصة عملية الساق الخشبية في حمام الشط التونسية، التي نفذتها الموساد حينها، وليحيي اسمه بعد موته لأن قدر الشهيد أن يبقى في ذاكرتنا وأن يكتب بدمائه أسطورة أخرى من أساطير المقاومة الخارقة للحدود والخرائط والشعوب. فتاريخ تونس يشهد بأنها كانت ولاتزال حاضنة قوية للمقاومة الفلسطينية وأن البوصلة دائما متجهة إلى هناك، وأن مهد الثورات يكفيها تشريفا أن يكون بيان كتائب القسام الذي ينعى الشهيد يأتي موافقا لعيد ثورتها وكأن المجد قد ارتبط في تونس بـ17 من ديسمبر..

استشهد "الزواري" وكأنه يقول لنا بأن "المجد لدمنا البليغ الذي يتعبهم مشهده، الدم الذي يتعربش على اليدين، دمنا البليغ حتى في كأس الشراب، وفي الصحن الأخير، وعلى ذاك الجدار ومهما اختلفت الجدران والأسماء، فدمنا واحد مادام القاتل واحد والعدو واحد..
 

مشهده يقول لنا بأن المجد لشهيدٍ يبكيه ألف أخ سيصير شهيداً، لشهيدٍ لا يشبه شهيداً، لشهداءٍ يرحلون مرة واحدة ودفعة واحدة وبحقيقة واحدة.. عجلة الأحداث تثبت لنا دائما أننا لسنا استثناء التاريخ، وقد نُباد في النهاية أو نُهزم، ذلك احتمال كل حرب.. "محمد الزواري" مات ليحفر فينا مكانه بيديه.. يرحل خفيفاً، نودعه فيتدفق فينا مشهده المخضب بالدماء، ننصب له شاهدًا في القلب، عليه اسمه، وتلخيص حياته: قاتل صادقاً حتى قُتل.. حتى قُتل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.