شعار قسم مدونات

الضادُ في عالَمِي

Mareike Beetz, academic assistant with the oriental manuscript collection, presents the Arabic manuscript 'al-Masalik wa al-mamalik' by Islamic scholar al Istakhri in the research library at Friedenstein Castle in Gotha, Germany, 14 October 105. The work is considered one of the best known geography books from the 10th century. A.D. UNESCO has added two texts - including the Arabic manuscript - from the Gotha research library to their world documentary heritage list within the context of the 'Memory of the World' program.

لَم أكُن أرتقبُ انتهاءَ المرحلةِ الثانوية لأمرٍ إلّا لدراسةَ تخصُّصِ اللغةِ العربية؛ أنتظرُ الإبحارَ في عالَم هذه اللغة لأستمتِع بنحوها وصرفها وبلاغَةِ قولِها وحرفِها وتاريخ آدابِها. ومضت الأيام لأجدَ نفسي في كلية الآداب أدرسُ اللغةَ الإنجليزية منتظرةً مقعداً يحوّلني إلى العربية وكأنّي نصٌّ ينتظر ترجمته.
 

كنتُ أراقِبُ محاضرات أهلِ اللغة العربية وأغبطُ من يجلس في مقاعدها ومَن يُتقِنُ فكَّ مفرداتها وعروضها وأسمعُ في ذاتِ الوقتِ كلَّ ما يصرفني عن دراستها: "نسبة البطالة لخريجي اللغة العربية عالية"، "لن تجدي فيها غايتك"، "زمن الأدبِ والأدباء انتهى"، "هذا العصر يحتاجُ منكِ لغةً عالمية".. إلى آخر ما سمعتُ من نصائح وإرشادات جعلتني أتنازل عن حلمي، وأكملُ دراسةَ اللغةِ الإنجليزية؛ لأنّها اللغةُ العالمية الأولى.
 

ولغةُ الضادِ هي العربية إذ أنَّهُ أكثرُ حروفها تميزاً واختلافاً عن غيرها من اللغات. فما الذي لا يجعلها لغة العصر الأولى؟

تخرجتُ من الجامعةِ وأنا أبحثُ عن السببِ الذي جعلَ هذه اللغة الإنجليزية هي لغةُ العصر. فإن تحدثتُ عن التاريخ وجدتُ تاريخَ العربية يفوقُ الإنجليزيةَ بمراحل، وإن تكلمتُ عن الأدب فالأدب العربي ذو تركيبات وصورٍ تعبيرية تفوق جمال الآداب الأخرى ولا أتكلّم هنا من ناحية ذوقية فحسب لكن بنية الأدب والشعر العربي هي ذات بحورٍ تفوقُ آداب لغاتٍ مختلفة.

وإن تكلمتُ عن البلاغةِ فكلمةٌ بالعربية تساويِ جُملاً بالإنجليزية أو غيرها ناهيك عن عالم الترادف والأضداد والمشتركات اللفظية والجناس والطباق وغيرها، وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في وصفها: "إنَّ الذي ملأَ اللغات محاسناً، جَعَلَ الجمالَ وسرَّ في الضادِ" ولغةُ الضادِ هي العربية إذ أنَّهُ أكثرُ حروفها تميزاً واختلافاً عن غيرها من اللغات. فما الذي لا يجعلها لغة العصر الأولى؟ أو لأستبدل صياغة السؤال: ماذا يحدثُ عندما تتقِنُ اللغة الإنجليزية؟
 

ستدخلُ إلى فيلمٍ وتستمتعُ بالأحداثِ دون الحاجة للركضِ وراء الترجمة، لن تشعرَ بالخوف من فجوةِ التواصل إن كنتَ مسافراً إلى دولٍ أجنبية غير عربية، ستتنقل في المواقع الإلكترونية وتقوم بقراءة المقالات والأبحاث فيها بسهولة، حتى مواقع الشراء ستصبح أكثرَ مرونة، لن تحتاجَ أن تبحث طويلاً في ترجمةِ موضوعٍ للعربية فبإمكانك قراءته بلغته الأصل، ستقرأ روايات ممتعة، ستحصل على وظيفة أفضل لأنك قادر على الحديث في الاجتماعات والاتصالات مع الجهات الأجنبية، سيكون تعاملكَ مع الأجهزة الحديثة أكثر سرعةً وفهماً. بالملخص: ستصبح حياتك أسهل وأكثر فائدة، بل وربّما أكثر متعة أيضاً.
 

لقد استطاعت الأمة العربية يوماً أن تقودَ علماء الغرب لتعلِّمَ لغتها وإتقان مفرداتها ليجدوا في كتب العربية وعند علمائها ضالّتهم وغايتهم.

في اليوم الثامن عشر من كانون الأول من كل عام يُحتفَلُ باليوم العالمي للغة العربية وذلك كونه اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها الذي أقرت بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. في هذا اليوم لا أريدُ -شخصياً- قراءة مقالاتٍ عن أهمية اللغة العربية أو عن تاريخها من بين اللغات السامية أو عن أدبائها وشعرائها؛ فكلُّ ذلك لن يزدني حباً لها أكثر، لكنني في هذا اليوم أبحثُ عن فائدةِ إتقان اللغة العربية.
 

يقالُ إن اللغةَ مرآة الأمة، ولذا فعالميةُ اللغة العربية أمرٌ عائدٌ لعالميةِ الأمة نفسها. ولقد استطاعت الأمة العربية يوماً أن تقودَ علماء الغرب لتعلِّمَ لغتها وإتقان مفرداتها ليجدوا في كتب العربية وعند علمائها ضالّتهم وغايتهم. تنازلتُ عن حلمي أول مرّة وارتضيتُ بأن أبحِرَ في العربية عبر كتبها ومراجعها لا عبرَ مقاعد دراستها.

إلّا أن حلم العالمية لا يفارقني، يمكننا يوماً أن لا نحتاج تاريخاً معيناً لجعلِ هذه اللغة لغةً عالمية وذلك إن صنعنا أفلاماً عربية عالمية أو كتبنا بحوثاً ودراسات عربية عالمية، أو ألّفنا رواية عربية عالمية، أو أنتجنا أغنية عربية عالمية، أو كان منا شخصية مؤثرة عربية عالمية، أو كان لنا معهدٌ أو دار علمٍ أو جامعة عربية عالمية، أو كنّا نملك سوقاً عربياً عالمياً، أو أنشأنا موقعاً عربياً عالمياً. في اليوم العالمي للغة العربية وفي كل الأيام نحتاجُ أن نخطو نحو العالمية، وذلك لأنّ اللغات التي تتصدر العالم تُنسبُ لأممٍ تتصدر العالم أيضاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.