شعار قسم مدونات

اليسار الإسلامي والليبرالية الإسلامية

blogs - marx
تحفل الكتب السلوكية بالحديث عن التحولات الفكرية، وغالبا ما تكون النبرة مشجية، تستحضر معاني الثبات والانتكاس، وهذا حق إلى حد ما، لكن المنهج النبوي يقوم على سؤال الله الهدى أولا "اللهم إني أسألك الهدى" (رواه مسلم)، ثم يسأل الله الثبات على ذلك الهدى "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"(رواه الترمذي)، أما سؤال الله الثبات دون هدى، فنهج مذموم حكاه الله في كتابه عن المشركين إذ قالوا "أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد" وبهذا الترتيب (الهدى ثم الثبات) يفهم معنى الدعاء القرآني "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا".

ومع طوفان الأفكار التي غشيت عالمنا الإسلامي صار حديث التحولات مألوفا، وما من موجة فكرية إلا تجد راكبا يتراقص عليها، ثم ينتقل لأخرى وهكذا، إلا أن ما أمضيت ليلتي في تتبعه ليس إثبات التحول، بل ما يمكن تسميته "رواسب النهر القديم" أو البقايا كما عبر عنها أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله- بقوله "والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال" (درء التعارض 7/97).

لم يسلم عامة المتحولين في عصرنا كخالد محمد خالد، وطارق البشري من الماركسيين

هذه البقايا تصيبني بالأسى، فالإمام أبو الحسن الأشعري رغم تصريحه المتكرر بعودته إلى مذهب أهل الحديث، كانت هذه البقايا مانعة من التحول التام، وهو ذات الأسى الذي يلفني حين أقرأ بصمات المذهب الزيدي على فقه الإمام الشوكاني، وإن قال إنه صار من الماضي لست مهتما بتقويم هذا الماضي صوابا وخطأ، لكن شعور العجز عن التحول التام يستوقفني، ويحرك مكامن قلبي، ويجعلني أستحضر حالة الصمت التي ألقت ثوبها علي مدة بعد قراءة ما سطره الرازي في ختام كتابه أقسام اللذات، وكأني أرى دمعه يمحو بعض أسطره، حيث يقول في اعتراف ذاتي مؤلم "واعلم أني بعد التوغل في هذه المضائق، والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق، رأيت الأصوب الأصلح في هذا الباب طريقه القرآن العظيم، والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السماوات والأرضين على وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل".


ثم سرد آيات في الإثبات؛ لكن الذي استوقفني في استرساله، اعترافه بالعجز ترك بقايا النفس الكلامي في مناجاته حيث قال "ومقر بأني ما مدحتك بما يليق بك؛ لأن المدائح محصورة في نوعين…"، ثم قال: "فيا رب العزة! إني مقر بأني لا أقدر على مدحك إلا من أحد هذين الطريقين، ومقر بأن كل واحد منهما لا يليق بجلالك وبعزتك، ولكني كالمعذور؛ حيث لا أعرف شيئا سواه، ولا أهتدي إلى ما هو أعلى منه".

قال المسيري رحمه الله عن نفسه إنه ماركسي على سنة الله ورسوله؛ وهو ما حصل لاحقا بدرجة أخف.

وفي عصرنا هذا تبرز ظاهرة رواسب النهر القديم على جل المتحولين، فالخلية المعرفية إذا اقتاتت فكرة صعب استخلاصها منه إلا بتوفيق من الله ثم اشتغال جاد بالبعد حتى من الحمى القديم، وتبقى اعترافات المفكرين المتحولين إلى الفكر الإسلامي شاهدة على أنهم بعد كل ما فعلوه من تغير إلا أن ثمة بقايا عالقة؛ والدكتور مصطفى محمود صب جام غضبه على الماركسية -التي كان يوما ما تحت رايتها-، وعرج على أصحاب البقايا الماركسية من المتأسلمين الجدد أمثال خالد محيي الدين، لكن العجب تقرؤه في نقد الدكتورة عائشة بنت الشاطئ للدكتور مصطفى نفسه؛ وأنه لم يسلم من ظلال الشجرة القديمة في فكره التالي، بل لم يسلم منها عامة المتحولين في عصرنا كخالد محمد خالد، وطارق البشري من الماركسيين، وقل مثل هذا في بقية التيارات والأفكار حتى داخل الطيف الإسلامي نفسه كتحولات الجهاديين وغيرهم.

بذور البقايا أنبتت لنا "اليسار الإسلامي" و"الليبرالية الإسلامية" وبقية التلفيقات الإسلاحداثية . وأخرجت لنا أمثال روجيه غارودي الذي صرح لروبرت لافون بأنه جاء للإسلام حاملا الإنجيل بيد، وفي اليد الأخرى رأس المال لماركس، وقد قرر عدم التخلي عن أي منهما -كما هو نص كلامه-، وفي مزحة قديمة قال المسيري -رحمه الله- عن نفسه أنه "ماركسي على سنة الله ورسوله"؛ وهو ما حصل لاحقا بدرجة أخف، فلا تخطئ عين القارئ لهذا المفكر الكبير أثر الأدوات الماركسية في نموذجه المعرفي النهائي، وقد سبق التذكير بأن المقام ليس مقام تقويم لكنه رصد لظاهره البقايا.

هذه الظاهرة توجب الحرص الشديد عند التعاطي مع تراث المتحولين، وتوجب إطراق القلب ألف مرة خوفا من زيغه، وتحوله، ومن عوفي من التحولات فليحمد الله، ولا يحملنه زهوه بعقله على أن تكون كتبه جسرا يقوده لنار تحرقه في الدنيا بالحيرة ثم تكبه على وجهه حيث لا تنفع فذلكات "البرستيج الثقافي".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان