شعار قسم مدونات

بدايةٌ بلا نهاية.. نحو كتابةٍ جديدةٍ لوقائعِ التاريخ

blogs - history islamic
يُمثلُ نهج كتابة "البداية والنهاية" المُتبَّعُ في زمنِنا؛ نهاية أي محاولة صحيحة لكتابة التاريخ وقراءته. أنا هُنا لا أنتقص من قدر الحافظ بن كثير الذي بمجهوداته الجبارة قُدِّرَ لوقائع تاريخنا وسير رجالاتنا أن تُحفَظ فلا يطالها النسيان، ولا تكنُسها رياح الاندثار، لكني أتحدث عن الكتابة المُفَنّدة للتاريخ الذي يتمكن ذهن قارئه بمُقتضاها أن ينفذ إلى العِبر، وأن يستجلي الحقائق المُنظمة لحياةِ المُجتمعات وتتابُعِ الحضارات.

إن التَغنّي بأمجاد الماضي بنَظم الجماليات والمبالغات والسرد المُسلسل لأحداث التاريخ في ثوب الحكايات، يُضيِّعُ الأثر المرجو من التعرض إليها، ويُحيل تلك الأحداث من حالها الأصلية -كونها مُعطيات ونتائج- إلى "فولكلور" شعبي يستعيده الناس في المناسبات والخُطب الصاخبة الرَنّانة بغرض النواح على ماضٍ لم يخامروا مُعطياته، والتطلّع في قلةِ دراية لإلباس الحالي بأثواب القرون الأُول بإغفالٍ بالطبعِ مُتعمد لاختلاف ظروف الأحداث على كافة الأصعدة تاريخيا، واجتماعيا، وسياسيا واقتصادياً!

الفرد إما انخرط في المجموع فاتصف بسمات شخصية الكل، وإما اجتمعت لكلمته الجموع وبذل له المُتحمسون أرواحهم وأملاكهم حتى يضحى فكره واقعاً.

ينبغي على المُتعرضِ للتاريخ أن يفصل بشكلٍ بات بين سير الأفراد وتواريخ الممالكِ والدول، ويجب عليه بعد ذلك تحري السبيل الصحيح لقراءة وفهم تاريخ كليهما، فتاريخ الدول يجب أن يبتدئ باستطلاع حال العنصر المؤسس للدولة قبل تاريخ التأسيس، والحال الذي أعنيه هنا هو وضعهم في المجتمع الذي كانوا فيه من حيث ثلاثة مُعطيات: مكانتهم الاجتماعية، وقوتهم السياسية، ونفوذهم الاقتصادي -إن وُجِدت إحداها أو كلها- يليه بيان طريق وصولهم إلى السلطة مع عدم الاقتصار على السرد فقط، بل تخطيه إلى الربط والتحليل وقراءة الحقيقة الواحدة من كل الأوجه التي احتُمِلَ التأويلُ منها وإليها.

يعقب ذلك كله رسم شكل المجتمع إثر وصولهم إلى السلطة من حيث حال الناس اجتماعيا، والنظام والأحوال الاقتصادية السائدة، وسياسيا باستجلاء الأحوال الداخلية بين رأس السلطة والرعايا، وخارجيا ببيان العلاقة بين الدولة عينها وبين إقليمها الذي تتبعه، أو الكيان الذي تندمج تحته إذا كانت ولاية أو قُطرا مفتوحا (مُحتلاً) أو بلدا يدخل ضمن إمبراطورية ويتبع تاج.

ثم في آخر الأمر تناول أسباب الأفول وبواعث الانهيار بالفصل والتفنيد لاستنباط البراهين والوقوف على الأسباب الحقيقية لانحسار نفوذ الدولة وضياع مُلكها أما في تراجم الأفراد فيجب على القارئ أن يدرس علاقة ذلك الفرد بالجماعة المؤسسة للحكم، وتأثيره عليها. فالفرد إما انخرط في المجموع فاتصف بسمات شخصية "الكل" أو ما يُسمى بالشخصية الجمعية، وإما اجتمعت لكلمته الجموع وبذل له المُتحمسون أرواحهم وأملاكهم حتى يضحى فكره واقعاً، ولتخرج الصورة التي تَشَارَكوها وقتاً إلى الدنيا فيشاركهم إياها المُبعدون والناسُ أجمعين.

علينا إعادة قراءة التاريخ وتقديمه في قالبٍ تثقيفي يُلائم قُراء هذا العصر، أولئك الغرباء عن الخُطب، رافضو شعارات الوهى، القابعون بين صفحات التاريخ

يستلزم القراءة الصحيحة لتاريخنا إذاً إعادةٌ حتمية لصوغ وقائع ذلك التاريخ انطلاقا من مداخل كتابية عديدة، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع (تأريخ طبقات المجتمع وعناصره ككتابة تاريخ العنصر الفارسي مثلاً، و بداية دخوله في التاريخ الإسلامى انتهاءً بوصوله إلى السلطة في العصر العباسي، ثم انفصاله عن جسد الدولة فيما بعد في شكل دويلات: إيران وبابل)، وشكل المجتمع (يعني كتابة تاريخ الإسلام بداية من مجتمع الخلايا فى مكة مروراً بمجتمع المدينة البدائي، ثم الحكم الملكي الأوحد في عصر بني أمية، ثم الحكم الفيدرالي في عصر بني العباس، وأول حكم العثمانيين، فالكونفدرالية الناجمة عن الحركات الانفصالية في الشرق الأوسط وآسيا في الفترة اللاحقة، بدخول القرن الثامن عشر، انتهاءً بالجمهوريات المُتناثرة المُتفرقة في العصر الحاضر)، والحضارة والعلم وطرح الكتابتين الدينية والعسكرية جانبا بعض الوقت إلى حين الانتهاء من مداخل الكتابة الأخرى، ثم ضم أشكالها قاطبة بغية رؤية الصورة كلها من سائر جوانبها، فلا يكون هناك إبهامٌ وغموض.
 

إن تفسير وقائع التاريخ وإرساء دعائمها كلها على مدخلٍ واحد يُحرِّفُ أصول الأحداث، ويشوه مفهوم حياة الدول والمجتمعات والعلاقة بينها، فلا يوجد مجتمع يحيا بنصل الرمح وأسنةِ السيوف، ولنا في التتار خير دليل؛ لكن أي مجتمع يمتد ويحيا بالتعددية بين عناصره، واعتصام تلك التعددية العددية بفكرة شاملة تنصهر في رِكابها الفروق الجوهرية بين أبنائها لتوحد قيادهم تحت نِصابٍ أشهق، وتضمهم في بناء أسمق يُكافئ مجهوداتهم و مُنجزاتهم بما يُلائم جلالها وعظيم نواتجها دون الاتكاء على أصلٍ ومكانةٍ وعرقٍ ولون.

نحن نعلم الآن حجم المهمة المنوط بمؤرخينا إنجازها؛ لذا وجب علينا التوقف عن كيل الاتهامات والنيل بالتجريح من كل قلمٍ حر(كسُهيل طقوش وسعيد عاشور)، ونَبَذَ جلبة الشعارات وعكف على قراءة التاريخ وإعادة تقديمه في قالبٍ تثقيفي يُلائم قُراء هذا العصر، أولئك الغرباء عن الخُطب، رافضو شعارات الوهى، القابعون بين صفحات التاريخ يُقلبون بين ثناياها بحثا عن فهم قويمٍ للحاضر، أملاً في الخروج من الهاوية نحو مُستقبلٍ أفضل لمجتمعاتهم وقِيَمِهِم وديانتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.