شعار قسم مدونات

مالكوم إكس أَمْ حلب؟

blogs - aleppo
في الأسبوع الماضي ذكرت أنني سوف أتحدث عن مالكوم إكس، ثم تداعت الأنباء مرة أخرى عن مذبحة أخرى، وفظاعة جديدة، وقيامة تقوم في مكان من العالم ونحن في بيوتنا لا حول لنا ولا قوة.. لم أعرف ماذا أفعل عندها.. سألت نفسي هل أكتب عن مالكوم الآن والناس تقتل وتموت؟ أم أكتب عن الناس الذين يقتلون ويموتون؟ هل أتجاهلهم إذا قررت أن أكتب عن الحاج مالك؟ أم أنها طريقتي في ما يسمونه المضي قدماً والتفكير فيما هو بعد المأساة؟

لم أجد جواباً.. بقيت مترددة.. تأخر موعد إرسال المدونة ومازلت لا أعرف ماذا نفعل في وقت كهذا؟ هل نحترم دماء الأموات ونرفع رايات الحداد حتى نمنح الإنسانية وقتها لتظهر إنسانيتها وقدرتها على التعامل بعاطفة مع ما يتعرض له جزء منها؟ أم نضرب الصفح عن كل هذا، فمتى أعادت دموع الحزانى قتيلاً ومتى أصلح الحزن والبؤس حال المنكوبين؟

إنهم يكسرون ظهورنا باليأس.. إنهم يدفعوننا إلى البحث عن الخلاص في الموت.. ننظر إلى الموتى ونقول "ارتاحوا"، "ربحوا".. إنما الأحياء هم المتعبون..

أفكر في مالكوم إكس الذي تخلى عن اسمه الذي ولد به لأنه يرى بأن المستعبِد الأبيض هو صاحب ذلك الاسم، لقد أحضر أجداده من أراضيهم قسراً وألقى بهم عبيداً في أرض لا يعرفونها وهواء لا يألفونه ومنحهم اسمه، سلبهم حتى من أسمائهم التي يدعون أنفسهم بها، فاختار لنفسه أن يكون "إكس" مجهولاً، حتى يستطيع في وقت لاحق أن يعرف من هو بعيداً عن مستعبِده ويختار اسمه الذي يريد، وقد فعل الحاج مالك ذلك تماماً.. لقد أعاد تشكيل نفسه من جديد بعيداً عن كل الغضب والقهر والدماء التي لطخت ماضي شعبه..

تمر أمامي صورة للجامع الكبير في حلب، نعم أعرف أن البشر أغلى من الحجر، وأن دم المسلم أغلى على الله من هدم الكعبة، ولكنهم عندما يهدمون التاريخ، يقتلون معه كل من ماتوا مئات المرات، يقتلون الحيوات التي عاشوها والأنفاس التي بذلوها والأمم التي كانوا لها آباءً وأجداداً..

إنهم يقتلون الأحياء والأموات ومن سيولدون معاً.. إنهم يستعبدوننا بالحزن.. إنهم يكسرون ظهورنا باليأس.. إنهم يدفعوننا إلى البحث عن الخلاص في الموت.. ننظر إلى الموتى ونقول "ارتاحوا"، "ربحوا".. إنما الأحياء هم المتعبون.. والحقيقة يا رفاقي من شعوب العوالم المستعمرة أننا نحن المتعبون، لا ليس كل الأحياء.. نحن المنهكون من كمّ الظلم والإسراف في الغبن، نحن المتعبون من كوننا لا نملك من أمرنا شيئاً.. مفعولٌ بنا طوال الوقت.. أملنا الوحيد أن نجد لأنفسنا ماهية لا يكون القتل والدمار والتخريب جزءاً منها، لا أن نعيش الحياة كردِّ فعل..

أعود إلى مالكوم.. كثيراً ما أشير إليه بوالدي مالكوم رحمه الله، لا أعرف لماذا يحتل في ذهني منزلة الوالد.. أراه يتحدث إلى مراسل صحفي يسأله: ألست خائفاً من الموت؟ فيقول بكل أريحية: لعلني رجل ميت "I probably am a dead man already".

ولكنه لم يكن يحيى كرجل ميّت، ربما حررته هذه القناعة فأعطته ما لم يتسنى لغيره أن يتحصل عليه من القدرة على اختيار الطرق الأصعب، وخوض المعارك الأكبر. إن كنت قرأت سيرته الذاتية فستعرف أنه عاش حياة كفيلة بأن تجعل أي إنسان عاقل يفقد رشده، ولكن هذا لم يحدث.. بل دفعته ليجد إيمانه إضافة إلى الحفاظ على العقل وسلامة القلب.. كثيراً ما أدعو الله أن لا يختبرني بابتلاءات لا أقدر عليها.. "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"..

كلما تزاحمت الفظاعات وأخذت أفكر في تفاصيل الأحداث.. صرخات الصغار.. رعب الأمهات.. قهر الرجال.. عجز القادرين.. أحياء يُتركون للموت لأن هناك من له أمل في النجاة أكثر منهم.. أعود كثيراً إلى الصغار.. أتمثل لحظات الرعب والألم.. أجد عقلي رافضاً التصديق.. أحبس صرخة تنازعني للتحرر من ضوابط الطبيعي.. ما الطبيعي في كل هذا؟ وهل يكدر صوتي صفو براءة هذه البشرية المقززة؟ أعود أتمم.. " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"..

في كل مرة نكتئب ونبكي قليلاً أو كثيراً ثم شيء ما في نفسنا يرتاح لأنه تأكد أنه مازال حيّاً ويمضي..

نحن أموات بالقوة وإن لم نكن أمواتاً بالفعل، كوننا بشر يفرض حقيقة أننا أموات.. لأن نهايتنا إلى الفناء مهما طال بنا العمر واختلفت طبيعة الحياة التي نعيشها.. ولكننا نعيش حياة الخالدين.. نقتل بعضنا وكأننا نضم أعمار من يموت منّا إلى أعمارنا.. نتخطف الأرزاق فيما بيننا كأننا ندخرها إلى أبد الآبدين.. ستسألونني ما دخل هذا الحديث في ما يحدث في حلب؟
 

إذا ما نظرنا خلف كل تلك الطائرات والأساطيل وموازين القوى والنعرات والصراعات على الحدود والسطوات.. فلن تجد سوى رغبة الإنسان في هزيمة الموت .. أليس من المدهش أن تجد القاتلين خائفين من الموت يدفعونه بعيداً بالمزيد منه؟ لا يدفع الموت بعيداً بالقهر والظلم إلا من كان مرتاباً مما هو آتٍ بعده.. تقلقه نهاية الحياة فيسعى إلى إطالتها بكل السبل.. ترهقه فكرة الفناء فيظن أنه بالتطاول عليها يستطيع أن يكسر تعويذتها..

مضى يومان الآن على هذه الفورة الجديدة من الأخبار والصور.. حاولت أن لا أترك لنفسي الحق في الحداد هذه المرة، قلت في كل مرة نكتئب ونبكي قليلاً أو كثيراً ثم شيء ما في نفسنا يرتاح لأنه تأكد أنه مازال حيّاً ويمضي..

قلت ربما إذا لم أترك لها أن ترتاح ظلت متحفزة هكذا ووجدت طريقة تفعل بها شيئاً.. ولكنني أجلس الآن برأس ثقيل يكاد ينفجر.. وصدر ضيق.. وغصة تتفلت منها عبرة بين الفينة والأخرى.. أقول ليس كل حداد انغماساً في الأسى.. ولا كل بكاء تفريجاً للهم.. ابكي قليلاً.. ثم عودي إلى الكتاب واقرئي تلك الصفحات التي يتحدث فيها الوالد مالك رحمه الله عن أننا نخسر إذا سمحنا لما يؤلمنا أن يحدد لنا كيف نعيش حياتنا، كيف أن الخصم يفوز إذا ترك لنا إرثاً من الحنق واليأس، كيف أن المستقبل ملك لأولئك الذين يجهزون له الآن.. ابكي قليلاً ورددي.. "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.