المعادلة هنا سهلة، فهناك يوجد ماء وغذاء وأوكسجين، وكذلك هنا، ولكنني حتى أقوم بهذه الرحلة أحتاج أقلها جواز سفر وفيزا حتى أستطيع أن أتنقل، ولكن لماذا وما السبب؟ وكيف أصبح الرفيق الوحيد في أسفار الإنسان جواز سفره؟
بعد إقرار جواز السفر وتطبيقه، أصبح مقياس الرفاهية بالتنقل يعتمد على الدولة التي تُصدر هذا الجواز، فدولة مثل ألمانيا على سبيل المثال يستطيع حامل جواز سفرها السفر إلى 172 بلدا دون الحاجة لفيزا. |
أولاً، لا بد من العودة بالتاريخ إلى النشأة والتطورات التي أدت إلى وجود ما يسمى جواز سفر: عندما وُجد الإنسان على وجه الأرض وبدأ يدخل في صراعات مع البيئة المحيطة ويحاول جاهداً توفير طعامه، وكذلك إيجاد الشريك من الجنس الآخر للتزاوج واستمرار النسل بشكل بديهي، كان يشعر بالضعف حينما يواجه الحياة وحده، كونه لا يتمتع بسلاح طبيعي كالمخالب أو الأسنان القاطعة أو حتى إفراز سم للدفاع عن نفسه، فكان لا بد له ليكون قويا من التكتل في مجموعات تحمي بعضها البعض وتتزاوج وتستمر في البقاء، وهنا بدأت أولى مؤشرات التكتل البشري بأبسط أشكاله ولتضع كل مجموعة لنفسها منهجا بسيطا تسير عليه، حيث تتوزع المهام ما بين الصيد والانتباه للنسل للجديد وبقية الأمور الحياتية البدائية.
بدأت تلك التجمعات بالتزايد، وكان لزاما على كبارها من الذكور البحث عن مناطق جديدة للصيد والماء، وأثناء التوسع بدأ الصدام مع مجموعات بشرية أخرى لها تطلعات سابقتها، وحينها كان لا بد من الحرب لتأمين ما تم السيطرة عليه من أراض صالحة للصيد، فكلما زاد عدد أفراد إحدى المجموعات البشرية زادت نسبة مناطق الصيد المسيطر عليها، والتي يتم انتزاعها من سيطرة المجموعات البشرية الأخرى، ولكن عندما تتعادل مجموعتان بشريتان من حيث القوى يبدأ الوجه البدائي للاتفاقات والهدن بالظهور كمفهوم للبقاء، ثم يتم تقاسم المناطق وفقا لمفهوم الأكثرية في العدد والأقوى في القتال، وهو ما يشكل مفهوم الحدود بين المناطق بشكله البدائي.
ومع تطور الحياة وانتقال البشر إلى مفهوم الرعي وتطور الأسلحة البدائية، بدأت بوادر حرب جديدة بالظهور غرضها السيطرة على المراعي والمواشي، واستمرت العلاقات على ما هي عليه حتى بعد انتقال الإنسان للزراعة البدائية، حيث أصبحت الأخيرة سببا جديداً لنشوب الحروب، ومع التطور الذي مر على الجنس البشري باختلاف لونه وعرقه، وكذلك ظهور أسلحة وخطط عسكرية بشكل أوسع، أدى إلى ظهور الممالك الصغيرة والكبيرة والتي بدورها وضعت حدوداً لمناطق نفوذها أكثر وضوحا، ومن خلال ما يعرف بالمعاهدات بين الدول صاحبة الجيوش القوية.
ومع انتقال البشر إلى مفهوم التجارة، ظهرت أولى علامات الانتقال والمرور السلمي للأفراد بين المناطق التي تسيطر عليها المجموعات البشرية المختلفة، وحينها لم يكن الإنسان يحتاج لإذن مرور، فقط كان عليه أن يجعل بضاعته سالمة حتى تصل من مكان الإنتاج إلى الأسواق البعيدة.
نظرة تاريخية لبداية منح جواز السفر
باستثناء الروايات التي تحدثت عن أقدم صيغة لجواز السفر، والتي ملخصها الطلب الذي تقدم به خادم في البلاط الفارسي عام 450 قبل الميلاد للحصول على إذن مكتوب لمغادرة المملكة، فإن أقدم جواز سفر محتفظ به في المتحف البريطاني يعود إلى عام 1641، والذي يحمل توقيع شارلز الأول ملك بريطانيا آنذاك، أما جواز السفر الحديث فقد حدد بعد عقد عدة مؤتمرات بداية من العام 1920، والذي يأتي على هيئة دفتر صغير متعدد الصفحات.
جواز السفر عبارة عن وثيقة فصل عنصري تشبه إلى حد بعيد التمييز على أساس عرقي وديني وعلى أساس اللون، ولكن جواز السفر أكثر وسائل التمييز العنصري خبثا. |
وبعد إقرار جواز السفر وتطبيقه في مختلف بلدان العالم، أصبح مقياس الرفاهية بالتنقل يعتمد على الدولة التي تُصدر هذا الجواز، فدولة مثل ألمانيا على سبيل المثال يستطيع حامل جواز سفرها السفر إلى 172 بلدا دون الحاجة لفيزا، وعلى العكس، فإن دولة مثل سورية يحق لحامل جواز سفرها السفر إلى 32 دولة ومعظمها تعطيه ما بين عشرين يوما إلى تسعين يوما للإقامة، وكثير من الدول تطلب مبلغا ماديا عند الوصول كثمن لفيزا مؤقتة.
الفرق كبير ما بين المواطن الألماني والمواطن السوري على الرغم من أن المقومات الطبيعية للحياة في ألمانيا تشابه تماما المقومات في سورية، ولكن يبقى الاختلاف في القوة المانحة لجواز السفر. فالتجمعات البشرية الحديثة التي نطلق عليها مفهوم الدولة يتحدد قوة جواز سفرها من خلال قوة مؤسساتها وحكوماتها وأفرادها من النواحي الاقتصادية والأمنية والعسكرية.
فيكون وفق هذا المفهوم؛ جواز السفر عبارة عن وثيقة فصل عنصري تشبه إلى حد بعيد التمييز على أساس عرقي وديني وعلى أساس اللون، ولكن جواز السفر أكثر وسائل التمييز العنصري خبثا، وهو سلاح فتاك تستخدمه الدول وكبرى الشركات للحفاظ على الولاء الأعمى من قبل التجمعات البشرية، فلا يسمح لك بالسفر كشخص إن لم تتكرم عليك الدولة ذات الحدود المصطنعة بمنحك وثيقة من مجموعة أوراق رُسم بين أسطرها كرامة حاملها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.