إنْ قَسَتْ عليكَ حياةُ الجمود أو أغرَقتْكَ حالاتٌ من الاكتِئابِ والضغطّ اليوميّ˛ أو أُثيرَ فُضولُكَ حول أمرٍ ما˛ أو أرّدتَ أن تُجالِسَ صديقاً لا يُمّلُ˛ فإنّك تلتَفِتُ صوبَ القِراءة. إنّ القرَاءَةَ فعلٌ محمودٌ يأخُذُكَ من مقبَرةِ الجَهلِ إلا آفاق المعرِفةِ والثقافةِ˛ وما بينَهُما تَجدُكَ تصعدُ دَرَجات الحياةِ بسلاسَةٍ أكبر مزدانة ملامِحُكَ باليَقين.
إنّ العاميّة المتداولة في الأزّقةِ والأحياءِ معفوٌّ عنها˛ لكنّها تصيرُ وباءاً مميتاً حينَ تُخلّدُ في الكُتُبِ وتُعيقُ بجدّيةٍ كبيرةٍ أيّ مشروعٍ قوميّ أصيلٍ لِوحدةٍ عربيّةٍ ثقافيّةٍ |
ولولا أنّني لَستُ بِصدَدِ ذكرِ خِصالِ الكُتب وحَسناتِ القراءةِ لكنتُ ملأتُ بضعَ صفحاتٍ وأنا أُمجّدُ الكُتُبَ والقراء ولكني سأتجّه صوبَ اللغةِ˛ اللّغةُ العربية: المكوّنُ الحقيقيّ لِنبعِ الثقافةِ˛ والإرثُ الدينيُّ والحضاريّ للأمةِ العربيّة˛ وآخرُ معاقِلِ المَجدِ صموداً. للّغةُ التي خصّها الله بالذكرِ في كتابِه الكريم "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "..وتغنّى بها القاصي والداني من الناطقينَ بها والباحثينَ عنها. يقول الشاعرُ أدونيس في مدحها.
" إنّ الذي ملأَ اللغات محاسن … جعل الجمال وسره في الضاد ".
وأنا أعبُرُ بابَ معرَضِ الكُتبِ˛ وعناوينُ الرواياتِ وأكثَرِ الكُتُبِ مَبيعاً تتزَاحَمُ في رأسي˛وشكلُ حلمي الذي على هيئةِ مَكتَبةِ ضخمةِ يداعبني أبدأ في تَصفُّحِ الكتبِ ˛الأصيلةِ والمُترجمةٍ عن لُغاتٍ أجنبية لأصطدم باللهجاتِ العاميّة واللّغاتِ المحكية من بلادِ الشامِ إلى بلادِ المغرب فيسقط طَعمُ الأدَبِ في حلقي علقماً ˛وأضعُ الكتابَ جانِباً ودَهشةُ السؤالِ تعتَريني: كيفَ تُحلّقُ هذهِ الكُتُبُ في سَماءِ النَجاحِ ˛وأجنِحَةُ اللغةِ فيها مكسورة؟..
أقِفُ في زاويةٍ منسيّة وأتسائَلُ˛كيفَ أسقطَ الاحتلال الممتدُّ مُنذ قَرنٍ لُغتنا الأمّ عبرَ ترويجِ اللهجاتِ العاميّة˛ فعزّزَ الإنفصالَ العربيّ والقوميّ فينا عبرَ تَرسيمٍ عريضٍ للحدودِ القاتِلة بينَ الدولِ وبينَ الشعوب ؟..وكيفَ سَالتْ مِن جوانِب عُروبَتنا اللغةُ ˛ فانمَسَخَنا عنها؟..
يقول الرافعيّ :
" ما ذَلّت لغةُ شعب إلا ذُلّ ، ولا انحطَّت إلا كان أمرُهُ فى ذهابٍ وإدبارٍ ، ومن هذا يفرِضُ الأجنبيُّ المستعمرُ لغتَه فرضاً على الأمةِ المستعمَرَة ، ويركبهم بها ويُشعرهم عَظَمَته فيها "
إنّ الثالوثَ المحرّمَ: السياسةُ.. الجنسُ.. والدين˛تفكّكتْ أضلاعُه وأُبيحَتْ زوايَاهُ في مناحي الحياةِ وفي صفحاتِ الكُتب..وكانَ هذا حسناً لما كان مِنها أسيراً ظُلماً ˛ لكنّهُ طالَ الأخضرَ واليابِسَ |
إنّ العاميّة المتداولة في الأزّقةِ والأحياءِ معفوٌّ عنها˛ لكنّها تصيرُ وباءاً مميتاً حينَ تُخلّدُ في الكُتُبِ وتُعيقُ بجدّيةٍ كبيرةٍ أيّ مشروعٍ قوميّ أصيلٍ لِوحدةٍ عربيّةٍ ثقافيّةٍ ˛ فالكاتبُ هوَ خطُّ الدفاعِ الأخيرِ˛ واللغةُ هي المَنفى الذي نلجؤ إليه حينَ ينهَمِرُ الموتُ علينا من آلات الحربِ والاستِعمار ˛ فتشويهُ اللغة هي السقوطُ المدوّي . وأتسائلُ وأنا أجلسُ أمامَ أمّهاتِ الكُتُبِ ˛بِحسرةٍ: أينَ ذَهَبَ مِقّصُ الرّقيبِ؟..أمْ أَنّهُ يكونُ حادّاً حينَ تُمّسُ سُلطاتُه العُليا بِسوءٍ˛ وتَصيرُ شَفراتُهُ هزيلةٌ حين العَبَثُ باللغةِ ؟.. ولنْ أختَلِفَ مع من سَيُعارِضني لِيقولَ أنّ مقصَ الرقيبِ هزيلٌ منذ عقدٍ وأكثَرَ من الزمنّ˛فهذا حقيقيٌّ..
إذْ إنّ الثالوثَ المحرّمَ: السياسةُ.. الجنسُ.. والدين˛تفكّكتْ أضلاعُه وأُبيحَتْ زوايَاهُ في مناحي الحياةِ وفي صفحاتِ الكُتب..وكانَ هذا حسناً لما كان مِنها أسيراً ظُلماً ˛ لكنّهُ طالَ الأخضرَ واليابِسَ وحرَقَ أرضَ الثقافةِ الفكريّة˛ ومؤسسةَ المُجتمعِ.. وصارَ سِلعةً رخيصةً تُباعُ في سوقِ الثقافةِ السوداءِ بِسعرٍ زهيدٍ˛وهذا مأخذٌ كبيرٌ لا يَسعُني أنْ أخوضَ فيهِ هُنا˛لكنّني أطرحُ مَأخذي على هذا المَقصِّ الذي لم ينتَبِه يوماً إلى اللغةِ مُتذرعاً بحججٍ واهيّةٍ من قَبيلِ البساطةِ وإشمالِ فِئاتٍ بمدى أكثر اتساعاً من القرّاءِ˛لكنّني أرى أنّهُ إخمادٌ لِنارِ التوّهجِ الثقافيّ..وحيلةٌ من حِيَلِ بعضِ الناشِرينَ لزيادَةٍ مبيعاتِهم وأرباحهم الماديّة˛ فَهَمُهُمْ الأكبرُ هو تسويقُ الكِتابِ ولو كانتْ فِكرَتُهُ مكررّةٌ للمرةِ الألفِ والضادُ مِنهُ بريء..
وهذا الإضعافُ لقوةِ اللغةِ وأثَرِها المقدّس على النَفسِ ˛ومَقدِرَتُها الساميّة في لمّ شملِ الأمّة العربيّة˛ هو جريمةٌ حقيقيةٌ بحقّها ˛وتدميرٌ للمَنفى الأخيرِ بعدَ أنْ دُمّرَتْ الأوطانُ واقعيّا.. وأُعرّجُ بِسؤالي الأخير على تخلّف ترجمةِ الكُتُبِ من العربيّة الي العالميّة ˛ كيفَ يُمكِنُ أنْ نُطالِبَ العالمَ بترجمةِ كُتبِنا إلى اللغاتِ الأخرى ورفعِها من إطار الإقليميّةِ إلى العَالميّةِ ونحن ذواتنا لا نجدُ فيها ذاكَ الشغف الحقيقيّ وتلكَ اللغةُ الأمُ التي تدّكُ بِقوّةِ كلمةٍ منها تعابيرَ طويلةٍ من لغاتٍ أخرى؟
وإنّ الخِطابَ يطولُ لو عُدنا إلى وَكرِ الأزمةِ˛ وعَرَضنا أسبابَ هذا التفكّكِ اللغويّ الآتي مُنذُ سنِّ النُطقِ الأولِ ˛عُبوراً بالمدرسةٍ و طبيعةِ التربيّة ثمّ عرجنا على المحاضراتِ العلميّةِ والدينيّة والصالوناتِ الثقافيّةِ˛ مروراً بوسائلِ الإعلامِ وانتهاءاً بالكُتُبِ بشتّى مجالاتها..
وهكذا آلتْ اللغةُ إلى السُقوطِ بِحُججٍ واهيّةٍ ومخاوِفَ عابِرةٍ ولا نجدُ غيرَ الدعوةِ إلى النُزوحِ نحوَ اللغةِ من كل حدبٍ وصوب..لِنُعيدَها إلى مكانتها الحقيقيّةِ .
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.