شعار قسم مدونات

دروع آدمية

blogs - palestine boy

في الصباح الباكر من ذلك اليوم المكفهر القمطرير، بينما كان أهل القرية المسالمة نياما، كسرت حوامات العدو السكون الذي استبد بالآفاق أمدا بعيدا. لقد كدّر أزيز محركاتها لحظات الصفاء التي ظلت ترخي بظلالها الوارفة على الكائنات جميعها.

وحيث إن أهل الأرض المباركة يعلمون بالفطرة أن تحليق العدو في الساعات المبكرة، لا يمكن البتة أن يكون أمرا مبشرا بالخير؛ فقد استيقظوا فزعين بعدما ألقت بهم نوبات الذعر الحادة والمجلجلة خارج بيوتهم، فهبوا جميعا لتحسس ما أسفر عنه ذلك التحليق غير البريء، وما بات يهجس في ضمير الغراب الأسود نذير الشؤم الذي ملأ الدنيا نعيبا، فإذا بمنشورات كالحة تلفح وجوههم، وتصدم أبصارهم.
 

بعد انصرام المهلة التي حددها الاحتلال، توجه نحو القرية بكل قواته المدججة بالأسلحة من كل نوع، وجعل في مقدمة المسير دباباته ومجنزراته.

تم إلقاؤها من الجو تمهلهم ثمانية وأربعين ساعة لمغادرة القرية الهادئة التي كانت مسرحا لمسقط رأس قاطنيها بدون استثناء، وأشجار الزيتون المثمرة التي ورثوها منذ عقود طويلة عن أجدادهم الأوائل، تحت طائلة التعرض للتنكيل والعقاب الجماعي اللذين لم يتقدم لهما نظير..

اجتمع السكان من جميع الأعمار والفئات؛ الكهول، الشباب، النساء والأطفال واتفقوا جميعا على الالتصاق بالأرض التي كانت تربتها تسري في دمائهم وعروقهم. طلب الشباب من النساء والصبيان والعجائز والمسنين عدم الاقتراب من مجنزرات الاحتلال وجرافاته، بعدما عزموا على التصدي بصدورهم العارية لعمليات الهدم، واقتلاع أشجار الزيتون؛ التي يعتبرها كل الناس في هذه البقعة المقدسة، عمقهم التاريخي وهويتهم الحضارية التي تنطق بأنهم هم أصحاب الحق المغتصب.

شكل شباب القرية مجلسا للدفاع عن ممتلكاتها وكيانها، وقرروا الانتشار في جميع مداخل القرية وأرجائها كدروع بشرية لمنع زحف جرافات العدو ودباباته، حذّر بعض الشيوخ الشباب من وقاحة العدو وجرأة قواته اللامحدودة التي تحكي التجارب السابقة، أنها لا تراعي للدم الفلسطيني حرمة ولا  توقفها السلاسل الآدمية.

واقترح الكهول أن يكونوا أساس تلك الدروع البشرية لمواجهة المحتلين، وعارضت النسوة وخاصة الأمهات خاصة فكرة تضحية فلذات أكبادهن بأجسادهم وأرواحهم فداء لأشجار الزيتون التي عاهدوا الأجداد والأعمام والآباء على عدم التفريط في ورقة واحدة من أغصانها وفروعها.

فحَمي وطيس النقاش بين أهل القرية المنذرين بإفراغ بيوتهم حيث ترعرعوا بين جنباتها، وتنفسوا هواءها، وبينما هم كذلك إذا بشبان أجانب يقرعون أبواب القرية مقدمين أنفسهم على أنهم يمثلون حركة السلام الآن الإسرائيلية.. لقد أتوا يحملون رايات السلام، عارضين عليهم المساندة خلال الهجوم المرتقب للاحتلال على الأرض المغتصبة.

انقسم أهل القرية فيما بينهم.. أقلية فقط رحبت بالتعاون مع أنصار السلام اليهود، فيما عارضت الأغلبية  وطلبت منهم مغادرة القرية على وجه السرعة.عاد أعضاء مجلس القرية للتداول في الأمر، وقال رجل اشتعل رأسه شيبا وبلغ من الكبر عتيا مخاطبا بعض الشباب -الذين رفضوا عرض منظمة السلام اليهودية- لماذا أسأتم معاملتهم؟ لماذا قمتم بِنَهْرِهم، وهم الذين عبروا عن تضامنهم معنا ؟؟

وأضاف، ألم يقل رب العزة "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" فرد عليه زعيم الشباب المتحمس، والمندفع نحو الشهادة في سبيل الوطن: نحن لا نثق بهؤلاء اليهود…إنهم مِلّة واحدة.. أنا لا أستبعد أن يكون هؤلاء عملاء للجيش الإسرائيلي؛ بعثهم لجس نبض أهل القرية، والتجسس على أحوال سكانها بعد منشوراته البئيسة التي ألقاها من السماء..

وبينما هم في سجالهم منغمسون.. فجأة سمع صوت محرك سيارة رباعية الدفع في الخارج، فتدافع الجميع لمعرفة القادم، فإذا بها سيارة تحمل علم حركة التضامن العالمية (ism)، أتت لتمنع جرافات الاحتلال من اقتراف الجريمة النكراء.. بعد التحية والسلام قدموا أنفسهم لأهل القرية بعدما سألوهم عن هويتهم. فقالوا: نحن شباب أمركيون لقد أخبرتنا منظمة السلام الآن اليهودية عبر موقعها بأن سلطات الاحتلال تريد ترحيلكم بالقوة من قراكم واقتلاع أشجاركم، ونحن متعاطفون معكم.

سألهم أحد سكان القرية ألستم يهودا؟ فأجابوهم؛ لا نحن أمريكيون مسيحيون ولا نتعصّب للديانة، حقوق الإنسان لدينا أهم من كل شيء.

تحفّظ شباب القرية من الأجانب -الذين أتوا من الأقاصي البعيدة لتقديم يد المساعدة، والتعبير عن رفض العدوان- لقد قرروا الدفاع عن أرض آبائهم وأجدادهم بسواعدهم، ووهب حياتهم فداء لترابها الغالي المقدس.

بعد انصرام المهلة التي حددها الاحتلال، توجه نحو القرية بكل قواته المدججة بالأسلحة من كل نوع، وجعل في مقدمة المسير دباباته ومجنزراته، إضافة إلى الجرافات العملاقة التي هَيَّأَها لتدمير المساكن، واقتلاع الأشجار..

لم تنل قواته وسلاحه وجلبته من معنويات سكان القرية الذين تكاتفوا بجميع فئاتهم وأعمارهم وأجناسهم، وشكلوا سلاسل بشرية انتصبت سدا منيعا في وجه آلات المحتل وعتاده، بعدما جعلوا أجسادهم العارية دروعا بشرية. وقف نشطاء منظمة السلام الآن اليهودية وأعضاء حركة التضامن الأمركية غير بعيد عن أهل القرية يراقبون الوضع.

طرد أفراد من جيش الاحتلال المدافعين عن حقوق المغلوبين ودعاة السلام الأجانب، وأبعدوهم قبل أن يَهّم باكتساح القرية، لكن أهلها قاوموا بشدة وتمنعوا على أفراده.. وكان شباب القرية طلبوا بدورهم من الأجانب -الذي أتوا لمؤازرتهم- عبر مكبرات الصوت مغادرة المكان فورا..

العدو فشل في فصل أصحاب الأرض والحق عن أغصان أشجار الزيتون، التي تمسكوا بفروعها، وعضوا على جذورها بنواجدهم!

وبمجرد استجابة النشطاء على مضض للأمر، تقدمت جرافات العدو باتجاه السلاسل الآدمية الصامدة ، وأمر قادة الاحتلال الأطفال والنساء بمغادرة مداخل القرية، فأبوا خيانة العهد الذي أقسموا على الوفاء به ولو كلفهم أرواحهم…فأنزل العدو فرقة مشاة التي أزاحت بقوة متغطرسة الأطفال والنساء، وتم الإلقاء بهم في شاحنات كبيرة أحضرت خصيصا لهذا الغرض، ثم قاموا بتفريق شباب القرية.

لكن العدو فشل في فصل أصحاب الأرض والحق عن أغصان أشجار الزيتون، التي تمسكوا بفروعها، وعضوا على جذورها بنواجدهم!! فأعطى كبير العسكر أوامره باختراق الأجسام الآدمية بالمجنزرات…وماهي إلا ثواني معدودة حتى تسربل المكان بألوان حمراء قانية جراء إعادة تشكيل برك الدماء الطاهرة فسيفساء القرية الغارقة في مأساتها.

وبعدما انهمرت أرواح الشباب الأبطال وامتزجت دماؤهم بتربة المكان، في تلك الأثناء بدا العدو مصمما على تنفيذ فعلته الشنيعة، فاندفع أنصار السلام والحرية وحقوق الإنسان الذين صدمتهم مشاهد العنف، والقتل بدماء باردة، وألقوا بأجسادهم قربانا للجرافات والمجنزرات.

لم يكترث العدو بادئ الأمر، فدهست الجرافة مناضلة أمريكية وأردتها قتيلة في الحين.. لم ينتبه السائق المأمور لجريمته مما دفعه للتقدم نحو الأجساد المنتشرة مثل الحزام حول سكان القرية، وفجأة اكتشف قائد الجيش أن جسد ملقى جانب الطريق غارق في بركة من الدماء؛ جسد شابة أمركية أتت لمساندة الأبرياء الضعفاء العزل، فأشار القائد لقواته بالتوقف فورا والانسحاب من حدود القرية،  فهتف باقي السكان الذين احتشدوا لمعاينة الجريمة، أمريكية تنقد القرية! أمريكية تقدم روحها فداء للقرية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.