السؤال عن تحديد شكل السوق في أساسه ليس سؤالاً في الاقتصاد ولا يفترض أن يجيب عليه الاقتصاديون وحدهم، بل هو سؤال للمجتمع عن كيف يريد أن يعيش الناس فيه معاً؟ هل نريد أن يكون كل شيء في مجتمعنا معروضاً للبيع؟ نعلم يقيناً أن للسوق منتجاته وخدماته المتنوعة التي تتاح للبيع والشراء (المتاجرة) التي يطرحها وفق آليات "اقتصاد السوق". ويستفيد منها المجتمع في تسهيل معاشه وحياته رقياً وتطوراً ورفاهةً.
كذلك اتضح أن للمجتمع أيضاً منتجاته (غير المحسوسة)، حيث ينتج ويطرح المجتمع مجموعة من القيم والسلوكيات ترتقي أو تتقهقر بحسب ما يدين ويعتقد به أفراده. إلا أن ما ينتجه المجتمع لا يطرح للمتاجرة كحال سلع وخدمات السوق.
الدراسات الحديثة الآن في الاقتصاد تتحدث بشدة عن عدم المساواة المجتمعية وحتمية ابتكار آليات تعمل على إعادة توزيع أكثر فعالية للثروة. |
يلاحظ الآن أن هنالك ثمة نقلة نوعية في شكل السوق، حيث انتقل من "اقتصاد السوق" إلى "مجتمع السوق" حيث أصيب المجتمع بنزعة البيع والشراء، وأصبح يعرض منتجاته القيمية والأخلاقية للبيع، فبات كل شيء رهن البيع والشراء. بتعبير آخر، حدث تغوّل من قبل السوق وآلياته على المجتمع فحوله إلى سوق يعرض إنتاجه القيمي والأخلاقي والسلوكي للبيع والشراء.
لك أن تعلم إذا كنت في الولايات المتحدة الأمريكية وتم القبض عليك في تهمةٍ ما، وألقى بك في السجن، يمكنك أن تدفع 90 دولاراً لتحصل على زنزانة أفضل من حيث الخدمات والمساحة، أو إذا كنت مشغولاً في عملك وتحلم بدخول مباراة كرة القدم الأمريكية يمكنك أن تتصل بإحدى شركات الاصطفاف Queuing Line Companies وتستأجر من يقف لك في صفوف التذاكر الطويلة بمقابل 5 إلى 10 دولار للساعة. أو أن تدفع أكثر مقابل انتظارك في الصفوف بشراء تذكرة "VIP" تضمن لك مقعد خاص ووثير في الصفوف الأمامية.
وفي تجربة أخرى أجريت في إحدى الولايات الأمريكية عن مدى فعالية المال في تحفيز طلاب المدارس على القراءة، عرض على مجموعة من الطلاب مبلغ 2 دولار لكلٍ منهم مقابل قراءة أي كتاب من مكتبة المدرسة، اتضح أن ذلك لم يحفزهم على زيادة عدد الكتب المقروءة وحسب، بل أحدث ذلك تغييراً في سلوكهم ونمط تفكيرهم تجاه القراءة حيث أصبح الطلاب يبحثون عن كتب صغيرة الحجم ليجمعوا بها أكبر عدد من الدولارات يومياً.
يعلق مايكل ساندال أستاذ الفلسفة في جامعة هارفرد ومؤلف كتاب (ما لا يمكن أن يشترى بالمال؟) أن هذا الأسلوب التحفيزي هدم القيمية الأساسية والجوهرية للقراءة، بحيث أعاد توجيه الطلاب إلى الكسب المادي بواسطة القراءة، عوضاً عن العمل على زيادة وترسيخ قيمة القراءة نفسها في نفوس الطلاب.
الدراسات الحديثة الآن في الاقتصاد تتحدث بشدة عن عدم المساواة المجتمعية وحتمية ابتكار آليات تعمل على إعادة توزيع أكثر فعالية للثروة. ومن أكثر العوامل التي تفاقم أزمة عدم المساواة وإشكالية توزيع الثروة بين الشعوب والأفراد داخل المجتمعات هي أن يكون كل شيء عبارة عن سلعة معروضاً للبيع حتى ما ينتجه المجتمع من قيم ومبادئ وسلوكيات، فذلك يعزز أكثر من عدم المساواة بين أفراد المجتمع.
على الرغم من اكتساح الرأسمالية ما زالت مجتمعاتنا في الشرق الإسلامي تتسم بأنها مجتمعات أكثر تراحمية، وتشاركية، وتكافلية عن غيرها، ويعود ذلك لاحتفاظها ببعض مجانية ما ينتجه ويقدمه المجتمع، مازالت هنالك بعض المنتجات لم تتعرض بعد للبيع، أو لم تتحول مجتمعاتنا بالكامل إلى صفة "مجتمع السوق"، ما زالت مجتمعاتنا تمارس دورها الأخلاقي -بالرغم من تآكله التدريجي- تجاه وضع حدود أخلاقية لاقتصاد السوق.
يجب وقبل فوات الأوان أن يحدث العكس، بمعنى يجب أن يتغوّل المجتمع بما يقدمه من قيم وسلوكيات ومبادئ وتقتحم "اقتصاد السوق" من أجل ضمان الاتزان والمساواة المطلوبين وتحقيق شيء من العدالة للجميع، فكمية ما يعرض في السوق للبيع والشراء يعكس حجم عدم العدالة وسوء المساواة في المجتمع.
"هنالك أشياء تنتجها مجتمعاتنا لا يمكن شراءها بالمال" هذا ما يفتقده اقتصاد السوق وهذا ما تفتقده الرأسمالية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.