شعار قسم مدونات

دعوة لمشاهدة مسلسل أرطغرل

Turkish President Recep Tayyip Erdogan (L) and Japanese Prime Minister Shinzo Abe pose with poster of Ertugrul 1840 movie before their news conference in Istanbul, November 13, 2015. REUTERS/Osman Orsal

كثيرا ما أجتهد لإقناع أولادي بعدم مشاهدة الأفلام والمسلسلات التي تعرض على الشاشات السينمائية والتلفزيونية، وما ذلك إلا بسبب مستوى الانحدار الأخلاقي -فضلا عن الفكري والثقافي- الذي تبثه هذه الأعمال التي تسمى فنية في نفوس أبنائنا وبناتنا، لكنهم هذه المرة انتصروا عليَّ وأقنعوني بمشاهدة مسلسل "قيامة أرطغرل" وهو عمل فني تركي يهدف لتجسيد الحقبة التاريخية التي سبقت إعلان تأسيس الدولة العثمانية، حيث أرطغرل المتوفى عام 1281م صاحب البطولات في مواجهة الصليبيين والتتار هو ابن سليمان شاه زعيم قبيلة قايا التركمانية المتوفى 1236م، وهو (أرطغرل) والد عثمان خان الذي أعلن تأسيس الدولة العثمانية 1299م.

ما لمسته أن القائمين على مسلسل قيامة أرطغرل لم يكتفوا بمحاولة تجسيد حقبة تاريخية في عمل فني راقٍ، ولكنهم حرصوا على توجيه رسائل واضحة المعالم.

وخلال وقت قصير وجدت نفسي قد انتهيت من مشاهدة الجزء الأول كاملا، وهو حوالي 60 ساعة في 26 حلقة، والقارئ المثقف يعرف قيمة هذه الساعات الستين في حياة رجل يعمل بالسياسة ويحتاج لمتابعة الأخبار والتحليلات فضلا عن قراءة الكتب والأبحاث، وقد هوَّن عليَّ هذه الساعات شعوري أثناء المشاهدة بأنني أقرأ كتبا في علوم السياسة والإدارة الاجتماع، علما بأن الحلقات تتوفر على الإنترنت مترجمة للغة العربية بعد عرضها على التليفزيون التركي بأقل من 24 ساعة، وقد أذيع من المسلسل إلى وقت كتابة هذه السطور 67 حلقة كاملة.

ودعوتي هذه لمشاهدة المسلسل ليست موجهة للعامة والجماهير -فهم يشاهدونه أصلا- وقد حطم المسلسل كل الأرقام القياسية لعدد المتابعين، حتى إن المتجول بشوارع إسطنبول يشعر بهدوء وقت إذاعة المسلسل مساء الأربعاء من كل أسبوع أكثر من الذي يشعر به وقت نهائيات كأس العالم في كرة القدم؛ لكني أتوجه بالدعوة للساسة والمفكرين وقيادات العمل الإسلامي، فما لمسته أن القائمين على هذا المسلسل لم يكتفوا بمحاولة تجسيد حقبة تاريخية في عمل فني راقٍ، ولكنهم حرصوا على توجيه رسائل واضحة المعالم لكل من أراد أن يتعلم أنجح طرق الحكم والإدارة للمجتمعات الإنسانية.

وبالطبع فإن هذه الدعوة لا تعني خلو المسلسل من المخالفات الشرعية أو المغالطات التاريخية، بل فيه الكثير والكثير من هذه وتلك، لدرجة أن أي باحث في التاريخ قد يقول بأن المسلسل عبارة عن تركيب أسماء تاريخية وأحداث قريبة منها وربطها ببعض في سياق قصة من بنات أفكار المؤلف، وقد قام الدكتور نايف العجمي بالتنبيه على بعض هذه الأخطاء والمغالطات في مقطع فيديو مفيد على اليوتيوب؛ لكن الدعوة تهدف لتعويض النقص الموجود عند عامة قادة الحركة الإسلامية المعاصرة، والتي سأذكر أهمها في نقاط محددة.

وقبل ذلك أحببت أن ألفت إلى أن المشهد المتعلق بمحاولة الانقلاب التي قام بها الخائن كورت أوغلو على سليمان شاه يشبه بدرجة كبيرة الانقلابات العسكرية المعاصرة، ومنها انقلاب السيسي على الدكتور محمد مرسي في مصر، إلا أن سليمان شاه قاوم وحاول الهرب ولم يتمكن، فجاء ولده أرطغرل بالحيلة والمكيدة إضافة للقوة العسكرية ليعيد الأمور إلى نصابها، وفي المقابل فإن الدكتور مرسي رفض المقاومة والسعي لأن يكون وسط أنصاره واستسلم ليكون أسيرا بأيدي الخونة، وكذلك قادة الحراك بعده رفضوا (نعم.. الصحيح أنهم رفضوا ولم يعجزوا) اتخاذ الوسائل الصحيحة لإسقاط الانقلاب!! حتى استقر الخونة على رأس الدولة إلى الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أما المعاني التي استخلصتها من مشاهدتي للمسلسل والتي دفعتني لهذه الدعوة فهي كما يلي:
1-  مقاومة المسلسل للمعاني التي عمدت الدراما التركية المعاصرة إلى بثها من تشويه صورة الخلافة العثمانية عند الأتراك، ففكرة المسلسل أصلا هي تحسين صورة الخلافة العثمانية من خلال تجسيد بطولة والد المؤسس "أرطغرل"، والذي كانت بطولاته بمثابة التمهيد لقيام الدولة على يد ابنه السلطان عثمان الأول.

2-  تغيير ما تأصل عند الأتراك ومن تأثّر بتجربتهم من أن العلمانية هي سبب تقدمهم وتحسن مستوى معيشتهم، حيث يربط المسلسل النصر والعز بالقرب من الله وكثرة ذكره وحسن التوكل عليه، وقد صور المسلسل ارتباط أرطغرل بالشيخ ابن عربي على أنه عامل أساس في كل بطولاته وانتصاراته.

3-  القرب من الله وكثرة ذكره وحسن التوكل عليه أمور ضرورية لكل عبد في مراحل حياته المختلفة، وتزداد أهميتها لدى أي حركة إسلامية تغييرية، لكنها لا تغني عن الأخذ بأسباب القوة في مواجهة الأعداء ولو كانوا كفارا معتدين، لذلك لم يكن الدراويش وعلى رأسهم ابن عربي أصحاب سيادة ولا سلطة، إنما كانوا مجرد أعوان لمن حصّل الأسباب وعمل بمقتضى السنن، ولذلك نقول إن انتظار معجزات السماء والخدمات القدرية البحتة لا يجوز ولا يسوغ إلا بعد استفراغ الوسع في تحصيل الأدوات اللازمة لكل معركة.

4- الأعداء الداخليين والجواسيس ونشر الفتن والصراعات الداخلية أقوى أسلحة الأعداء في حربهم على الإسلام وأهله، وغالبا ما تكون انتصاراتهم بسبب ضعفنا وعجزنا وليس بسبب قوتهم وشجاعتهم.

5- عند حصول النصر والتمكن من الأعداء داخليا وخارجيا ينبغي تقسيم الناس إلى عتاة مجرمين طغاة متكبرين وعصاة مذنبين أغمار تابعين، فيتم تغليظ العقاب للفريق الأول لاستئصال شأفتهم وجعلهم عبرة وعظة لأتباعهم، ويُنظر في المصلحة من العفو والتسامح وفتح باب التوبة للفريق الثاني.

لابد من تقديم أفكارنا التحررية الاستقلالية ضمن مادة جاذبة للجماهير خالية من الإسفاف والابتذال الذي يُنشر على إعلام حكام العمالة والخيانة.

6- الجندي الواحد في معسكر أهل الإيمان كنز ثمين ودُرّة غالية لا يتم التفريط فيه بسهولة، والأصل هو الحفاظ عليه وعدم التضحية به دون ثمن من دماء الكفار وأرواحهم، وعند فقده يتألم المعسكر بأكمله رغم نيله الشهادة، أما أهل الباطل فأرواح الجنود لا قيمة لها عندهم، يضحون بالآلاف منها ليعيش السادة في دعة وأمان، بل إنهم كانوا يعلمون جنودهم طرق قتل أنفسهم عند الشعور بالهزيمة.

7- الخلو من الذنوب والمعاصي ليس شرطا في أهل النصر والتمكين، وقد يكون هذا مطلبا تعجيزيا عند بعض الدعاة والمصلحين، بل إن الله ينصر من أخذ بالأسباب وحافظ على الإيمان في الجملة حتى لو كان فيهم ذنوب وبِدَع، وقد ظهر ذلك عبر التاريخ في حوادث كثيرة تستعصي على الحصر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر" وفي رواية "بأناس لا خلاق لهم" المهم أن يتحقق أصل الولاء للمؤمنين وحب نصرهم والبراء من الكافرين وحب هزيمتهم.

8- الأصل أن المهاجم إما أن ينتصر إذا استعمل عنصر المفاجأة والمباغتة، أو يرجع بأقل خسائر إذا تسربت الأخبار للطرف الآخر، وأن المدافع إما ينهزم أو ينجو من هجوم العدو، لكنه لا يُسمى منتصرا إلا إذا قضى على عدوه.

وأخيرا أود أن ألفت انتباه القائمين على القنوات المناصرة للثورات العربية إلى عِظَم تأثير الدراما على الجماهير، فلابد من تقديم أفكارنا التحررية الاستقلالية ضمن مادة جاذبة للجماهير خالية من الإسفاف والابتذال الذي يُنشر على إعلام حكام العمالة والخيانة، وقد نجح صانعو مسلسل "قيامة أرطغرل" في تحقيق هذه المعادلة الصعبة بنسبة كبيرة، فلابد من الالتقاء بهم والاستفادة من تجربتهم التي أظن أن أثرها وتوابعها قد فاق توقعاتهم بكثير، وأظن هذا المسلسل كان أحد عوامل مسارعة الأتراك لمواجهة انقلاب يوليو (تموز) 2016.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.