لقد كانت تلك الإرادة في نظر الغنوشي هي ماهية القانون ومصدر احترامه. كما يرى الغنوشي أن قواعد تلك القوانين الأولى كانت في بدء نشأتها قواعد دينية، وكان القانون في كل مجتمع نشأ معتمدا على الدّين ممتزجا به حتى أن رجال الدّين كانوا هم أنفسهم رجال القانون. ولقد نزل الأنبياء والرسل لهداية الناس إلى عبادة الله تعالى وذلك بالخضوع لقواعد السُّلوك والمبادِئ والقيم التي عملت على إخراج النّاس من قيد الأهواء إلى التسليم والخضوع لسلطان موحد يعلوهم هو قانون الله.
إن الشريعة أو القوانين الإلهية والتشريعات الربّانية المنزّلة من الله تعالى هي أوّل القوانين التي كانت تحكم المجتمع البشري، فقد كان لها السّبق في تنظيم وحُكم الشعوب وليست القوانين الوضعية.
المسجد لجميع الناس فلا يحقّ لحزب أن يستعمله لخدمته دون الأحزاب الأخرى. كما أن فتح المساجد للدعاية الحزبية سيخلق الصراع بين الأحزاب التي ستسعى إلى احتكار المساجد. |
وبهذا تكون علاقة سياسة الشعوب وحكمهم بالقوانين وعلاقتها بالدّين عمرها عمر الإنسان على الأرض. لكنّ الطبيعة البشرية المتسلِّطة جعلت من الدّين مؤسسة تصل بها إلى أطماعها الفردية، حيث صار الإنسان يستعمل الدّين في شؤون السّياسة ويتحدّث باسم الإله لتمرير مشاريعه الفردية على حساب الدّين وعلى حساب الإرادة الإلهية العليا التي يحترمها النّاس ويهابونها. لقد أصبحت بذلك إرادة الملوك هي الإرادة الحقيقية لله وتم التمازج بين سلطان القانون وإرادة الحاكم، حتى صار من حق الحاكم أن يعتبر نفسه هو الدّولة، وكان هذا الفكر والاستغلال للدّين وبالا على الدّين والسّياسة وقاعدة أساسية للتسلط والدّكتاتورية.
ولقد كان لهذا الفكر الاستغلالي الدّور الأساسي في الثورات السّياسية التي كانت في أوروبا في القرون الماضية والتي تنادي بتحرير القانون من إرادة رجال الدّين وسلطان الملوك من أجل استبدال حكم الفرد الاستبدادي بحكم القانون، ومن أجل تقليص نفوذ وهيمنة الملوك الذين يدّعون استمدادها من الله مباشرة.
إن الذي حدث في أوروبا من ثورات يعكس درجة الظلم الذي عاشته الشعوب الأوروبية كما يعكس جهلا كبيرا شهده العقل الأوروبي قبل قيام النهضة الأوروبية. إنّه الجهل الذي يستعمل الدّين في أغراضٍ شهوانية فيَفسُد الدّين وتفسُد السِّياسة ويَفسُد الحكم لتَفسُد المجتمعات وتدخل في صراعات وحروب.
وكردة فعل لما حدث في أوربا من استغلال للدّين واستعماله سياسيا لتحقيق أغراض فردية وأطماع استبدادية، جاءت الثورات الفكرية والمسلحة في أوروبا لتضع حدّا لهذا الظلم، فتأسست المدرسة اللِّيبرالية الغربية التي أنجبت الدّولة المدنية العَلمانية وفصلت الدّين عن السياسة.
لقد كانت نتيجة العلاقة بين الدّين والسياسة هي الانفصال، لتتأسَّس الدّولة الغربية الحديثة وتُحَرِّم على الدّين الخوض في السّياسة وكل ذلك كان بسبب استعمال رجال الدّين وبالتحديد رجال الكنيسة للدّين والمتاجرة به.
تُعتبر مرحلة تأسيس الدّولة الإسلامية مرحلة وُضعت فيها اللّبنات الأولى لأول مشروع سياسي إسلامي، حيث كان الوحي يتنزّل خلال هذه المرحلة حاملا معه المبادئ والقيم الخالدة، وحيث أرسى المجتمع الإسلامي الأول بتفاعله مع هذه المبادئ والقيم نموذجا يحتذى به ويُقاس عليه.
لم يفصل الإسلام بين الدّين والسّياسة بل كان التلازم والارتباط بينهما أبدا. فكان القائد الأول للدّولة الإسلامية يستمدّ القوانين من الوحي ثم يتعامل مع الواقع بسنته التي تُعتبر وحيا أيضا. تلك القوانين والنّصوص هي ما ورثه المسلمون لقيادة دولتهم من بعد النبي ﷺ. إلا أن الأمة الإسلامية شهدت بعد موت النبي ﷺ خلافا سياسيا كان نتيجة لحياد الأمة عن منهجه السياسي.
لا شك أن الواقع الذي تعيشه الحركات الإسلامية هو الذي جعلها تغيّر من قناعاتها في الكثير من القضايا. فالمسجد مثلا يُعتبر في الإسلام المؤسَّسة الأولى التي بُنيت فيها الدّولة ومورست فيها السياسة. فقد كان النبي ﷺ إذا حلّ أمر جلل أو أراد أن يجمع المسلمين في قضية ما، ينادي المنادي "الصلاة جامعة" ليجتمع الناس في المسجد. لكن وتعاملاً مع واقع مغاير للواقع الذي كان يعيشه الصحابة رأت بعض الحركات الإسلامية السياسية ومن أهمها حركة النهضة التونسية ألاّ يُسخّر المسجد للمآرب الحزبية والسياسية.
وذلك أن المسجد لجميع الناس فلا يحقّ لحزب أن يستعمله لخدمته دون الأحزاب الأخرى. كما أن فتح المساجد للدعاية الحزبية سيخلق الصراع بين الأحزاب التي ستسعى إلى احتكار المساجد والسيطرة عليها.
رأى الغنوشي في مراحل متقدمة من مسيرته الفكرية أن العقل المسلم في الحركة الإسلامية قد انفصل عن الواقع بسبب فشله في التخطيط وفهم واقعه خاصة بعد عصر الانحطاط ومخاوف الحاضر ما كان له نتيجة على انفصال الدّين عن السّياسة، يقول الغنوشي "لقد فشل العقل المسلم في الحركة الإسلامية في فهم واقعه والتخطيط له بسبب ما ران من غبار عصر الانحطاط ومخاوف الحاضر وبسبب ردود الأفعال فانفصل بذلك عن الواقع. واستمر انفصال الدين عن الحياة في مجتمعاتنا وانفصال الدين عن السياسة والتأثير والمشاركة في توجيهها رغم أن الحركة الإسلامية بدأت برفض الفصل بين الدّين والدّولة".
الدّولة الدّينية يُقصد بها الدّولة المسيحية الثيوقراطية التي قامت في أوروبا وأسقطتها النّهضة الأوروبية لتستبدلها بالدّولة المدنية العَلمانية. |
ويذكر الغنوشي أيضا في مراحل متقدمة من مسيرته الفكرية أن الإسلام جاء شموليا لا مجال فيه للفصل بين الدّين والسّياسة ويستدل بتجربة الحركات الإسلامية الثلاث الكبرى: الإخوان المسلمون، الجماعة الإسلامية بباكستان، حركة الخميني في إيران. يقول راشد الغنوشي "فالإسلام في هذه الاتجاهات الثلاثة (الإخوان المسلمون، الجماعة الإسلامية بباكستان، حركة الخميني في إيران) يؤخذ على أنه كلّ مرتبط، كل جزئية فيه ترتبط بغيرها فالعقيدة والشريعة والعبادة كلّ متكامل ثمّ لا مجال للتفريق بين الدين والسياسة والدين والدّولة. ومن نتائج فكرة الشمول هذه العمل على تكوين دولة إسلامية. ولقد بذلت الاتجاهات الإسلامية الثلاثة جهودا جبارة لتحقيق هذا الهدف".
قامت الحركات الإسلامية السياسية منتقدة الدّولة الدّينية التي أساءت استعمال الدّين وسخّرته لأغراض شخصية كانت سببا في قيام الدّولة العَلمانية في أوروبا.
إن الدّولة الدينية لا يُقصد بها أيّ دولة تَعتبر الدّين سلطة عُليا لها، إنما الدّولة الدّينية يُقصد بها الدّولة المسيحية الثيوقراطية التي قامت في أوروبا وأسقطتها النّهضة الأوروبية لتستبدلها بالدّولة المدنية العَلمانية. ولا يرى الفكر السياسي الإسلامي أن هناك انفصالا بين السياسة والدّين الإسلامي لكن قد تكون الدّولة مسلمة ليست دِينيَّة في الإسلام لأن مصطلح الدولة الدينية أطلق على الدولة الثيوقراطية المسيحية في عصر الظلام الأوروبي.
___________________________________________________
المراجع:
راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية.
راشد الغنوشي، حركة الاتجاه الإسلامي في تونس.
فتحية النبراوي ونصر مهنا، تطور الفكر السّياسي في الإسلام، (القاهرة: دار المعارف، 1984م).
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.