شعار قسم مدونات

سبحة وكأس خمر!

الحضارة الإسلامية

يقرّر القرآن الكريم غائية الإصلاح في كل الرسالات السماوية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون، "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ " ويتمثّل هذا الإصلاح في فاعلية قيمية للعقيدة التي يغرسها القرآن في الإنسان، والتي تجلّت فيما تصدّى له الأنبياء بالإصلاح من مظاهر فساد مجتمعاتهم، فالنبي موسى جاء بالإصلاح السياسي لنظام قال زعيمه أنا ربّكم الأعلى، وكانت وصيّته لأخيه "وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ".

وجاء النبي شعيب بالإصلاح الاجتماعي للمعاملات التي ساءت وفقد أفراد المجتمع ذممهم وضمائرهم فيها، وجاء النبي لوط بالإصلاح الأخلاقي لمجتمعه الذي سقط في هوّة حيوانية سحيقة، ولعل أهمّ نقطة تشترك فيها أمراض هذه المجتمعات السابقة أن القيمة فيها أصبحت مسألة اجتماعية، أي أن المجتمع هو الذي يفرض على الفرد فيه ما يقرّر أن فيه سعادته، فبدل أن تكون القيمة هي الحاكمة للمجتمع أصبحت صورة من صور إنتاجه.
 

تقوم النظرية الأخلاقية في القانون الطبيعي على أن الأخلاق مسألة اجتماعية نسبية، تتشكّل في صورة ماديّة تجريبية خالصة، الأخلاق فيها هي تجارب الناس.

أحد أهم عوامل عولمة العلمانية هو تحييد الدين عن الفاعلية الإصلاحية، أو كما يقرّر الفيلسوف طه عبد الرحمن في تعريفه للعلمانية من أنها فصل للأخلاق عن الحياة، باعتبار أن الدين يسعى جاهداً لوضع غائية أخلاقية لكافة مظاهر الحياة، وهذا ما يقرّره الإمام الشاطبي الغرناطي مؤسس علم المقاصد، في كتابه "الموافقات" حيث يقول "والشريعة كلّها إنما هي تخلّق بمكارم الأخلاق"، فالدين يقرّر غائيّة أخلاقية سياسية واقتصادية واجتماعية، والخيرية مرتبطة بهذه الغائية لا بالالتزام بأداء الواجب الوظيفي البيروقراطي الذي يفرضه المجتمع أو الدولة أو أيّ سلطة.
 

تسعى المخابر الاجتماعية في القوى العالمية اليوم إلى بلورة نموذج تديّن يجعل صاحبه بليدا، في نموذج روحاني صوفي جذّاب يقرّر أن الدين هو مجرد تجربة فردية وشخصية ولا ينبغي أن يخرج عن هذا الإطار، يقوم هذا النموذج على تنسيب الغايات الأخلاقية للدين – أي جعلها نسبية -، فيصبح الإنسان المتدين لا يعرف الخير ولا يختاره، ولا يعرف الشرّ ولا يختاره، إنسان مسلوب الإرادة ومسلوب الحسّ الأخلاقي وليس عنده وعي خاص، إنسان طبيعي أي يخضع للقانون الماديّ التجريبي كما أيّ مادة وجزء من الطبيعة، يقول المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري "ما يحدّد إنسانية الإنسان وفرديته هو اختياره الحرّ، وما يحدّد أية ظاهرة هو الحدود المفروضة عليها".

تقوم النظرية الأخلاقية في القانون الطبيعي على أن الأخلاق مسألة اجتماعية نسبية، إنها تتشكّل في صورة ماديّة تجريبية خالصة، الأخلاق فيها هي تجارب الناس، وبالتالي فهي نسبية من فرد إلى آخر، وهذه إحدى مظاهر مفهوم الحداثة كما عرّفها أحدهم حيث وصفها بأنها القدرة على تغيير القيم بعد إشعار قصير!، الأخلاق في القانون الطبيعي زئبقية ولا يمكن الإمساك بها لأنها متغيّرة بمعدّلات متسارعة.
 

العلمانية محاولة قطع الإنسان عن غائية أخلاقية مطلقة وهذا ما سيشيئه – أي يجعل منه شيئا ماديّاً -، لهذا نرى الغرب يتخذ هذا الإنسان وسيلة لصناعة منتوج، اللذة منتوج يطلبه الجمهور لا حرج في إنتاج الإباحية، مجلات أخبار النجوم وفضائحهم التي تجعل من حياة أصحابها مادّة للبيع والشراء، شركات الإعلان التلفزيونية، وسيوهمونك أنك حرّ في أن تمارس دينك طقوسيا وروحيا كتجربة فردية في البيئات العلمانية، لكنك لست حرّا في أن تمارسه أخلاقيته ولا أن تبلغ غائيته لأنها ستصادم هذه القيم المادية المحضة ذات العوائد المربحة، لذلك كان الإسلام الطقوسي الروحي أنسب نموذج للقيم العلمانية، وهنا يبرز ما أسماه المفكر الراحل أستاذنا عبد الوهاب المسيري بعلمنة التدين والتي تأخذ – حسبه – عدة أشكال، أهمّها حلول الإله في المؤمن، بحيث يصبح من الممكن معرفة الإله من خلال حالة شعورية أو تجربة جمالية يخوضها الإنسان، فيصبح الإله أمراً خاصاً بالقلب والضمير الشخصي، بدل أن يكون إيماناً بما وراء الطبيعة وقدرة الإنسان على تجاوز الظاهر المادّي، تستند إليه منظومة أخلاقية تنظم تعامل الإنسان مع الناس ومع الطبيعة.

يصبح التدين في حال العلمنة طريقة يتخذها المرء لتنظيم علاقته بربه فقط، يتحول الإيمان إلى حالة وجدانية ويغرق صاحبه في ممارسات صوفية، محاولاً الوصول إلى الخالق أو إلى طهارة روحية من أدران المادّة، وهنا نصبح أمام تمركز حول الذات وسعي لتخليصها، بدل أن ينصرف الجهد لإصلاح ما بداخل الأنفس وإصلاح مجتمعاتها في ظلّ الغائية الأخلاقية الدينية كمرجعية نهائية، ولعلّ عبارة الصوفي الكبير الحلاجّ "ديني لنفسي ودين الناس للنّاس" أدقّ صياغة توضّح مفهوم علمنة التديّن.

من خلال النمط السابق للنموذج العلماني للتدين يفقد النسق الديني غائيته المطلقة ويصبح خاضعاً لمجموعة من القوانين الخاصة، ويصبح هنا الانتماء الديني كالانتماء إلى ناد للعب الشطرنج كما يقول المفكر الفرنسي "مكسيم رودنسون"، إنه تطابق تامّ مع النسق العلمي والعقلي في نسبيتهما!، فمجموعة التصورات "الإله -الإيمان في القلب، الإله يعرف بالعقل وحسب، الإله هو الطبيعة" كفيلة أن تولدّ نموذجا أخلاقياً علمانياً يدور في فلك المرجعية الماديّة وداخل الإطار الديني نفسه.
 

العقل الماديّ المحض هو عقل أداتي وصفه أحد المفكرين بأنه أشبه بالكمبيوتر الذي يتعامل مع المعلومات فيرتبها ويوظفها لكنه لا ينتجها، العقل المادّي يلاحظ ويجرّب ويفكّك ويرصد ما هو كائن، لكنّه لا يزوّدنا بما ينبغي أن يكون، إنه عقل عاجز عن التمييز بين الخير والشرّ، لأن مرجعتيه النهائية هي الطبيعة، وهذه الأخيرة كما يقال محايدة حياداً رهيباً، العقل المادّي قد يثبت الجدوى من الشرّ كحقيقة موجودة في الطبيعة، لكنه عاجز بالمنطق المادّي أن يحكم على ذلك بأنه شرّ.

إن الطبيعة لا تحابي أحداً، وكثير من التصورات المادية الأخرى يراد للدين أن يقف أمامها أعمى، أبكم وأصمّ، من خلال تحييده عن فعاليته القيمية.

لقد قام النازيون بإبادة العجزة والمعاقين واعتبروا أن في القضاء على هذا "الفائض" البشري الذي وصفه أحد العلماء النازيين أعضاءه بأنهم "يستهلكون ولا ينتجون" جدوى اقتصادية!، من المنظور المادي الطبيعي قد نجد لهذا الفعل أكثر من عائد اقتصادي لأنه منظور محايد حياد الطبيعة التي تقرّ أن القوّة هي منطق البقاء فيها.

إن الطبيعة لا تحابي أحداً، وكثير من التصورات المادية الأخرى يراد للدين أن يقف أمامها أعمى، أبكم وأصمّ، من خلال تحييده عن فعاليته القيمية، ونفي غائيته الأخلاقية ومقصده الإصلاحي، وهناك استثمار كبير في بلورة إسلام متصوّف غارق في الروحانية المنعزلة عن الحياة، المعطّلة لروح الإصلاح، الذي يرى في قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرهابا وفرضا للآراء على الغير وتدخّلا في ما لا يعنينا، الذي يعلّم الإنسان أن بيع الخمر منفعة اقتصادية في النهار، ولا يعارضه في أن يمسك مسبحته ليذكر الله في الليل!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.