شعار قسم مدونات

الشخص الذي تبحث عنه "داعش"

blogs-داعش

كلّنا نتذكر الطبيب العسكري التونسي الدكتور فتحي بيّوض الذي راح ضحية الهجوم الإرهابي الذي استهدف مطار أتاتورك بتاريخ 29 جوان 2016 مخلّفا 41 قتيلا و239 جريحا. مثال نذكره للإنطلاق من خلال للتأكيد على أنّ التنظيمات الإرهابية لا تضع الحالة الاجتماعية شرطا أساسيا لاستقطاب الشباب التونسي، والعربي بصفة عامّة، إنّما تستقطب من مختلف الفئات الاجتماعية. الدكتور فتحي بيّوض كان متواجدا في تركيا منذ حوالي شهر من تاريخ الواقعة بحثا عن ابنه الطالب بكلية الطب والذي التحق بتنظيم داعش الإرهابي في سوريا.

وتعود بنا أطوار الأحداث إلى سنة 2014 حين التحق ابن الدكتور بيّوض رفقة صديقته بتنظيم "داعش" الإرهابي بعد أنّ أوهما عائلتيهما أنّهما ذاهبان إلى سويسرا وقد تسببت حادثة الهرب في هز العائلة التي لم تتوقف عن محاولة اقناع ابنهم بالعودة إلى تونس وترط الطريق الذي ذهب فيه. التفاصيل تؤكد علم الأب بعد فترة بأنّ اِبنه انتقل إلى مدينة الرقة بسوريا، إلى حين أن أعلمه الملحق الأمني بسفارة تونس بتركيا "محمد علي العروي" أنّه قد تم كشف خويط تواصل مع اِبنه.
 

وتتسبب نسب البطالة والفقر المرتفعان في بعض المناطق بتبني الشباب لفكر تنظيم "الدولة الإسلامية" والقتال ضمن صفوف الجماعة في العراق وسوريا وحتى داخل تونس، بتعلة نيل مرتبة الشهادة

ومع هذا الاتصال، تحوّل العميد إلى تركيا بعد أخذ رخصة من العمل وبذل جهده لمدّة شهرين مع محمد علي العروي للعثور على ابنه وإقناعه بالعودة لتُكلّل هذه المجهودات بنجاح، حيث أنّ الابن سلّم نفسه للسلطات التركية على الحدود السورية في انتظار ترحيله لتونس.
 

وبعد كل هذه المجهودات، شاءت أقدار الله أن لا يعود العميد إلى منزله وأن يتوفى في المطار خلال انتظاره لرحلة العودة الى تونس. مثال ابن الدكتور بيّوض مثال عن مئات الشباب التونسي الملتحق بصفوف ما يعرف بتنظيم الدولة ويعري حقيقة الإدعاء الذي يربط الالتحاق بالجماعات المتطرفة والإرهابية بالظروف الاجتماعية والاقتصادية لضحايا الاستقطاب.
 

في حقيقة الأمر، الظروف الاجتماعية والاقتصادية تلعب دورا أساسيا في عملية استقطاب الشباب للمجموعات الجهادية. فالعديد من شباب الأحياء الفقيرة من تونس وحتى الأحياء التي تقطنها الطبقة الاجتماعية ذات الدخل المتوسّط. يمثل المعطى الاقتصادي والاجتماعي إحدى العوامل الرئيسية لجنوح الشباب التونسي نحو التطرف فالحكومة تتجاهل بطريقة أو أخرى الشباب ولا تخلق مواطن شغل لهم لاستثمار طاقتهم ومهاراتهم.
 

وتتسبب نسب البطالة والفقر المرتفعان في بعض المناطق بتبني هؤلاء الشباب لفكر تنظيم "الدولة الإسلامية" والقتال ضمن صفوف الجماعة في العراق وسوريا وحتى داخل تونس، بتعلة نيل مرتبة الشهادة -وذلك طبقا لمعتقدهم- كبديل عن صعوبة الحياة والتهرب من الواقع المرير.
 

لكن هذا السبب وحده لا يقنع طالب طب بالالتحاق بتلك الجماعات، وما يأييد هذه الفكرة، أنّ الفئة الاجتماعية التي التحقت بـ"داعش" لا تقتصر فقط على الطبقة الاجتماعية الضعيفة والمتوسطة بل تشمل كذلك الطبقة الاجتماعية التي تعيش نوعا ما من الرفاهة الاقتصادية والمالية. فكم من طبيب التحق بـ"داعش" وكم من مهندس وكم من صحفي ومن مغني.. والقائمة تطول.

كيف لطبيب قضى عمره يدرس عن كيفية المحافظة على الروح البشرية ومعالجتها ثم تغريه بعض الدولارات ليتحوّل إلى قاتل ـإن احتاج إلى تلك الدولارات من أصله-؟ وكيف لمهندس أفنى شبابه يخطط لإعمار المدن وإعادة ترميمها أن يقتنع بتدمير مدن ومعالم تاريخية؟ وكيف لآدمي امتهن الصحافة وسهر الليالي من أجل أخلاقيات المهنة ثم تجده ينشر فيديوهات قتل وتعذيب وحرق وتدمير ومقالات تكفير ووعيد؟
 

صاحب العقل النقلي، الذي ينشر الأفكار كما وردت إليه ـوإن كانت تعاديهـ يمثّل المطلوب رقم واحد على قائمة الاستقطاب لـ"داعش" وللجماعات التكفيرية والإرهابية المتطرفة بصفة عامة.

أسئلة لا يمكن اختزال أجوبتها في فلان يعاني من أزمة مالية.. ليس بهذه السهولة يمكن لإنسان امتزجت مهنته بالإنسانية أن يتحول في فترة زمنية قصيرة إلى وحش آدمي يقتل ويذبح ويدبر ويغتصب النساء والأرض والتاريخ والدين. بعيدا عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تضع "داعش" معيار العقل النقدي على رأس قائمة الاستقطاب فهي دائما ما تبحث عن الأشخاص القادمين من بيئات تشكو من ضعف العقل النقدي.
 

بالتالي فإن "داعش" تبحث عن العقول النقلية لا النقدية، فالعقل النقلي يتميّز بثلاث صفات كبرى، تمرير الأفكار دون نقاشها، وتكريرها دون تمحيص، وتبريرها بل والدفاع عنها حتى الموت. وهنا يتحول العقل إلى وعاء يحتوي على كم هائل من الأفكار بطريقة فوضوية يغيب عنها النسق المعرفي ومع هذه الفوضى الفكرية يخلق نوع من الدغمائية مما يجعل من صاحبها حاملا لأفكار متضاربة تصل في بعض الأحيان إلى درجة التناقض دون شعوره بذلك.
 

هذا ما يحيل آليا إلى تشكّل العقلية أحادية الرؤية التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص، فالوجود أبيض أو أسود، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير، معنا أو ضدنا. فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة، ويزداد التقليد، يشتد التعصب، ويتعمق اتجاه العنف، يتحنط العقل، ويتوقف النمو، يتعطل التطور، وتصبح الحياة مستحيلة، بسبب تشكل طريق ذي اتجاه واحد لامجال فيه للمراجعة، بالتالي، فإن الشخص الحامل للعقل النقلي أكثر عرضة من غيره إلى التحول إلى وحش آدمي لا يؤمن إلا بالقوة والعنف والقتل.
 

أما مفهوم العقل النقدي وصفاته فتتقابل مع المفهوم والصفات السابقة، إذ أنّ العقل النقدي يمثّل آلة ذات وظيفتين، فمن ناحية أولى يقوم العقل النقدي بغربلة وتصفية الأفكار الواردة من العالم الخارجي، ومن ناحية أخرى يقوم العقل النقدي بوظيفة التحليل والتأمل في الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي، وهذا التأمل هو الذي يقود الإنسان إلى المراجعة الدؤوبة لأفكاره من أجل عقلنتها أكثر فأكثر لتتحول بذلك العملية إلى نسق فكري منهجي، وأداة وعي حادةوهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب، لأن جوهر الحب مشاركة، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر، فالعقلية النقدية سلامية، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين.
 

ورغم حاجة تونس الماسة لأئمة ودعاة مؤهلين لمجابهة الخطاب المتطرف، أو الحد من تأثيره على الأقل، إلا أن الأئمة تجاوزتهم الأحداث ولا يلعبون الدور اللازم والمُتوقع منه

خلاصة القول، أنّ صاحب العقل النقلي، الذي ينشر الأفكار كما وردت إليه ـوإن كانت تعاديهـ يمثّل المطلوب رقم واحد على قائمة الاستقطاب لـ"داعش" وللجماعات التكفيرية والإرهابية المتطرفة بصفة عامة. لا يمكننا المرور على نقطة العقل النقدي والنقلي مرور الكرام دون أن نضع إصبعنا على الداء ونوضّح السبب الرئيسي لغياب العقل النقدي عن بعض شباب العرب والمسلمين، فهذا الغياب سبب الرئيسي ضعف مناهج التعليم المعتمدة من قبل العديد من الحكومات العربية وهي مطالبة بمراجعتها وتجديدها بحسب ما يقتضيه الواقع العلمي الدولي وبما يتناسب مع طموحات الشعوب العربية.

بالعودة إلى الواقع التونسي، فإن البلاد تعاني من ضعف معيار تعيين الأئمة الرسميين وهو ما يؤثر سلبا على الخطاب الديني ويجعل التوجه الرسمي يبدو ضعيفا وغير جذاب مقارنة بالتيارات الجهادية خاصة والتي تبدو أكثر جاذبية. ورغم حاجة تونس الماسة لأئمة ودعاة مؤهلين لمجابهة الخطاب المتطرف، أو الحد من تأثيره على الأقل، إلا أن الأئمة تجاوزتهم الأحداث ولا يلعبون الدور اللازم والمُتوقع منهم. وهكذا، يبدو خطاب تنظيم"الدولة الإسلامية" أقوى في مواجهة الخط الديني الرسمي لأن خطاب التنظيم يستمد قوته من ضعف الخطاب الرسمي.
 

هذا المقال لا يعتبر تكذيبا للدراسات والتحليلات التي وضعت المعطى الاجتماعي والاقتصادي معيارا أساسيا لاستقطاب الشباب للجماعات الإرهابية، إنّما يحاول تسليط الضوء على معيار آخر ذو أهمية لا يمكن إنكارها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.