شعار قسم مدونات

الداخل مفقود والخارج منها مولود

blogs-االمختطفين

ترامت أجساد أربعتهم داخل ممر ضيّق لا يتسع لأن تمد فيه كِلا ساقيكَ في آن واحد، بطول مقتضب المدى لا يتعدى الثلاثة أمتار، فلا تسمح لك المساحة بالتجول مع نفسك لدقائق، خافتٌ نور المكان وكأن الليل يجنُ على مكان إقامتهم باكراً حتى في وضح النهار.
 

الفراغ من جلسات التحقيق يشغله بعضهم بجلسة القرفصاء، فيدفن أحدهم رأسه بين ركبتيه،ومنهم من تهالكت عضلات جسده فيرمي بنفسه أرضاً وكأن زفرات الوجع تخرج من حدود الصورة، وآخرين لم تتسع لاحتوائهم الصورة المسرّبة. أربع قصص لأربع غائبين قسراً، التقطت لهم صورة رديئة الوضوح، ورغم ضعف كفاءة الكاميرا المستخدمة إلا أنه لو علم واحدهم بأنّ هناك كاميرا خفيّة تلتقط لهم صوراً اختلاساً لرفع جميعهم رأسه معلناً لها بأنه لا يزال على قيد الحياة رغم ضيق ممر عيشه.

لا أحد يعلم ما يجري هناك، فكل ما وصل عنهم هو عبارة عن صورة رديئة مسرّبة من داخل الزنزانة، قطعت الشك باليقين بأنهم لا زالوا أحياءً يرزقون عند الشقيقة مصر.

"الداخل مفقود والخارج منها مولود" لكل من يلج مقرّات أمن الدولة التابعة للمخابرات المصرية، فيكون الطريق ميسّراً للبقاء خلف قرص الشمس الملتهب، وهو مصير كل من تُرسم تحت اسمه خطوطاً حمراء ليقع أخيراً في شباك الطريق المشترك بين قطاع غزة والأراضي المصرية.

عن شهقة الوداع، عن فاجعة الغياب، عن هول الفقد دون الموت، عن تضارب دموع اليأس بالأمل مغمّسة بدهشة الوصول لطرف الخيط، عن أربعة شبان خطفت منهم بوصلة الطريق بمجرد إعلان الأمان لأنفسهم في أرض مصر. أربعة مختطفين حزموا أمتعتهم محاولين ممارسة حقهم في السفر، فكل واحد منهم له ظرف أجبره على اجتياز حدود غزته المحاصرة، فرصة للعمل في الخارج ومنحة لإكمال دراسة، ومحنة مرضية ألمّت بصاحبيهما.
 

شهرين مرّا بعد العام على اختفاء الشبان الأربعة دون تبرير ودون وجه حق، كما أنه لا أحد يعلم ما يجري هناك، فكل ما وصل عنهم هو عبارة عن صورة رديئة مسرّبة من داخل الزنزانة، قطعت الشك باليقين بأنهم لا زالوا أحياءً يرزقون عند الشقيقة مصر.

الشاب عبد الدايم أبو لبدة الفلذة الوحيدة لكبد أمه، منذ لحظة اختفائه لم يكف قلبها عن الارتجاف ولم تنقطع عن تعاطي الأدوية المغذية لشرايينها، لتضرب كفاً على مثيله خيبة في نسيانها تدفئة جسده أكثر لحظة وداعها له. أما عن حسين الزبدة والتي اقربت عينا أمه بأن تصبحا بحجم خرم الإبرة من شدة بكائها، وعن طفليه المتسائلين "مين خطف بابا .. يهود ولا عرب؟"، وعن زوجته اليتيمة بغيابه والمتفطر قلبها بانتظاره ماذا عساها تفعل بصغيريها وبنفسها؟

وعن طفل المختطف ياسر زنون الذي صرّح لكاميرات الإعلام بأن الشلل يبدوا أنه كبل جسد أبيه بعد ظهوره ممدداً على أرض الزنزانة، وذلك بعد أن خرج من غزة بصحة متهالكة وازدادت سوءاً باختطافه. وعن زهرة الشاب عبدالله أبو الجبين، لم ينفك ذويه عن النشر بأنه توأم الروح والحياة المنتظرة عودتها من جديد، فلم تكف أمه عن زيارة المشافي المرضية إثر وقوعها بوعكات صحية لا انتهاء لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.