شعار قسم مدونات

صناعة التغيير.. عندما تكون ثورة (1)

Anti-government protesters in Cairo's Tahrir Square listen as President Hosni Mubarak speaks to the nation February 10, 2011. Five years ago thousands of protesters took to the streets demanding the end of the 30-year reign of President Mubarak as Egypt became the second country to join the Arab Spring. After weeks of clashes, strikes and protests across Egypt, Mubarak resigned on February 11, 2011. REUTERS/Amr Abdallah Dalsh SEARCH "EGYPT UPRISING" FOR ALL 15 IMAGES

إنّ الحالة الثورية هي الحالة التي تأخذ زمام الخطوات الأولى لأي عملية تغيير، فهي التي تصنع تلك الفوضى أو ما يمكن تسميته عالم الفرص، حيث تصبح الأرض متهيئة لجميع ما يمكن طرحه من أفكار أو قيم أو أنظمة جديدة، فحالة الهدم الشامل التي تأتي بها الثورات "عادةً" تجعل الحاجة لوجود بديل في ذروتها، وتجعل عامة الشعب في أقصى درجات التقبل لكل ما يمكن أن يؤمّن له استقراراً بنسبة مقبولة، حتى وإن كانت أقل بكثير ممّا عرفته قبل الثورة.

فالثورة مقلقة للعامة، والفوضى غير مرضية، وهناك درجات من العبودية تستطيع الشعوب تحملها في سبيل خلق فرص أفضل من الأمان والاستقرار، كما أنّ الخوف من الطاغية يبلغ ذروته عند فئة كبيرة من الشعب، ويجعلهم يبحثون عن أي حل لإرضائه يحفظ لهم ما تبقى من الحياة بكل اشكالها.
 

أثارتني عبارة لأحد المعلقين منذ أيام تقول: "إن رجلاً تسبب له الطاغية بموت أحد أولاده وخسارة إحدى عينيه، سُئل عن إمكانية قبوله بوجود الطاغية فأجاب بكل وضوح: سأرضى بأي شيء يحافظ على ولدي الآخر وعيني الأخرى".

الملفت في الأمر أن عدداً كبيراً من الأجوبة تشابهت لحالات أشد قسوة أحياناً من الحالة التي تم ذكرها.. ولم يخرج عن هذه الأجوبة إلا المنخرطين في العمل الثوري بشكل مباشر بكافة أشكاله.

يجب أن نكون مدركين أن الفئة الثورية فقط غير قادرة على صناعة التغيير، لأنّ صناعة التغيير في الأصل ليست من طبيعتها، فهي دائماً تجنح لطرح مستويات عليا من الحلول تصل إلى حالة أشبه بالمستحيلة في حيز التطبيق. وهذا أمر واقعي بالنسبة لهذه الفئة، ولا يمكن أن يرتجى تغييره بسهولة، فدرجات التضحية التي خاضوها تفرض عليهم عدم الرضى بالأمور الواقعية. بالإضافة إلى أنّ العقلية التي تربّوا عليها هي عقلية هدم الفساد الذي يعتبرونه هم فساداً دون أن يكون في مرات كثيرة فساد حقيقي.
 

البساطة وسهولة الوصول إلى الأهداف، والخطاب الجمعي البعيد عن الصراعات، ووضوح الغايات هي أكثر ما يؤثر في الحشود

لغة المزاودة والمثاليات تكون هي الأكثر تداولاُ بين هذه الفئة، مما يجعل هناك فجوة كبيرة بينهم وبين الشعب.. الذي يعد الصانع الوحيد تقريباً لأي عملية تغيير حقيقية تستطيع الثورة في نهايتها أن تقول أنّها قد نجحت.

إنّ اللغة المتعالية والمزاودة لغة عصيّة على الشعب، حتى وإن كانت ذات مضمون برّاق وقيمي.. فلن تخاطر العامّة في تبنيها، لأنّ الشعور بالعجز أمام هذه الطروحات سيورث حالة انهزام وقلق دائمين، وهو ما يتناقض مع مناطق الراحة والاستقرار التي تبحث عنها العامة دائماً، وهذا ما سيجعل جميع الطروحات الواقعية الأخرى حتى وإن خالفت قيم الشعب ومُثله أقرب إلى ما يستحق التضحية والكفاح في نظر المجموع الغالب من العامة أو الشعب أو الأمة.

إنّ البساطة وسهولة الوصول إلى الأهداف، والخطاب الجمعي البعيد عن الصراعات، ووضوح الغايات هي أكثر ما يؤثر في الحشود، فهي تواقة دوماً إلى الحلول، وإلى الزمن المحدد غير المفتوح بشكل لا متناهي في طرح القضايا الكبرى، فالتنمية على سبيل المثال لا تقيسها العامة إلا بجودة الخدمات وارتفاع مستوى المعيشة، أما الأمور التي تنتمي إلى الشعارات الكبرى فهي فورات سرعان ما تنتهي لتعود حاجات الحياة الأساسية إلى الواجهة.

علينا أن ندرك أنّ هناك مشكلة حقيقية في الثورة وخطاباها وقضاياها، والنخبوية التي فرضها البعض من خلالها، ونكف عن تجاهل هذه المشكلة وندعي أن شعبية الثورة مازالت في حالة سليمة، فما يجمع الناس اليوم ليست الثورة، وإنما اشتراكهم بالمظلومية (القتل والقصف والتشريد و..) وهذا ما لا يستمر طويلاً، لأن الكفاح ضد الظالم يتناسب تقريباً مع الخوف منه، فالحل عند الغالبية هو ما يتم البحث عنه وليس النصر.
 

إنّ الفئوية والنخبوية التي يتعامل من خلالها الثوار مع العامة اليوم واحتكارهم لمصير من يقطنون في مناطقهم، وتبنيهم للمثل العليا للوطن والكرامة، والزج بالناس في حرب وجودية من أجل ذلك دون إعطاء أي أولوية لرأيهم، وجعل الدماء هي مصدر المشروعية، يشبه في نظر البعض حالة الاستبداد التي كان يمارسها النظام سابقاً، وإن اختلفت المسميات والغايات ومستويات الممارسة، فالاستبداد في سبيل البعث لا يختلف كثيراً عن الاستبداد في سبيل الثورة وقيمها، ولغة التعالي هي لغة مقيتة سواءً إن كانت في سبيل المُثل أو من كانت في سبيل الطغيان، فالنتيجة واحدة عند الغالبية، وهي جعل حق تقرير مصير وطن بأكمله في يد فئة دون غيرها.. إنّها نوع آخر من "الطائفية" 

علينا أن ندرك بوضوح أنّ الثورة ليست غاية، وليست وطن وإنما وسيلة، قمنا بها لتحقيق مجموعة من الأهداف، ولم تكن يوماً هي الهدف الذي نسعى وراءه، فالاصطفاف خلف الوسائل هو اصطفاف خاطئ، وهو ما يجعل لغة الطائفة التي تحدثنا عنها حاضرة بقوة، إنه الاصطفاف ذاته الذي تبناه الكثير من المستبدين ليعطوا الشرعية لحكمهم.
 

إن ثورة التي لا تكون لكل الشعب، ولكل المظلومين، ولكل الناس الشركاء في وطن واحد ليست جديرة بالانتصار.

أخشى أن نصل كثوار إلى أساليب المستبدين ذاتها بعد النصر، فمجالس حماية الثورة، وتجمعات القوى النخبوية، والحرس الثوري، وتجمعات الثوار، بدأت تعطي لنفسها حقوقاً لا يتمتع بها غالبية الشعب، بحجة الأسبقية والتضحية والدماء و..، وأنهم وحدهم من شعر بالألم والقادرين على حفظ البلاد في المراحل الحالية والمقبلة، وتم تصنيف غالبية المنضمين للثورة مؤخراً، أو الناس الذين تحررت مدنهم بفضل الثوار ولم يكن لهم أي سابقة ثورية كدرجة ثانية في الوطن، وكمتسلقين على الدماء عندما يطالبون بحقوقهم التمثيلية والإدارية، فمن لم يبذل الدماء أو يتبنى الفعل الثوري لا يحق له المشاركة في الدولة المقبلة أو العمل الحالي لأنه قد يكون خائن أو عميل، أو لأن الحس الوطني لديه ناقص ثورياً..

إنها المهزلة يا سادة.. إنها لغة التمييز والطائفية، ولغة الصراع الذي لن ينتهي، لغة تخوين مستمر ووطن يبنى على طائفة الثورة بدلاً من طائفة معينة، لغة بعثية سابقة حكمت باسم الثورة المزعومة في العراق وسوريا واليمن وما زالت تحكم في السودان وإيران ومصر بمسميات مختلفة، لغة تجعلك تشعر أن الثورة كانت لتحقيق العدالة لمن يطلبها فقط، وليست لكل الناس، لغة تجعلك تشعر كمواطن أنك أمام استعباد جديد لا يختلف عن القديم حتى بمسمياته، فالحركة التصحيحية وحرب تشرين والتصدي للمؤامرة الكونية ما زالت حاضرة عند الكثيرين وإن اختلفت المفردات.

إن ثورة التي لا تكون لكل الشعب، ولكل المظلومين، ولكل الناس الشركاء في وطن واحد ليست جديرة بالانتصار، وليعلم الجميع أن لنا أهلاً يشكلون أكثر من نصف الشعب السوري مازالوا يرزحون تحت حكم الأسد وسيتحررون يوماً ما، منهم الجاهل والمجهل والمظلوم والمغلوب على أمره..

إنهم جميعاً أبناء هذا الوطن.. وجميعاً شركاء في النصر وفي البناء وفي الدم 
إنهم سوريون يا سادة.. شاء من شاء وأبى من أبى..

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان