شعار قسم مدونات

القيم بين العالمية الإنسانية والخصوصية الثقافية

blogs - city

الحديث عن القيم في عالم اليوم حديث عن موضوع مهم يمس جوهر الإنسان كما يمس الصراع العالمي حول القيم. ويطرح السؤال بشكل واضح عن مدى عالمية القيم من خصوصياتها، ويستدعي للنقاش مدى تطابق دعوى عالمية القيم، مما يشاع اليوم على أنه قيم وعلى أنه عالمي، ومحاولة حمل الناس كافة عليه بأدوات غير نابعة من هذه القيم، وإنما هي أدوات خارجية طارئة!

 

ولعلنا نتساءل عن المقصود بهذا الكلام عن القيم بين عالميتها الإنسانية وبين خصوصيتها الثقافية؟ ا هو العالمي فيها؟ وما هو الخاص المحلي المرتبط بسياقات اجتماعية وثقافية حصرية غير قابلة للتعميم؟

 

مستويان للعالمية

القيم المعولمة هي قيم إجرائية استعمالية تقوم بها الحضارة الغربية من خلال التشريع للقيم والنماذج والمنتجات الغربية لجعلها محط أنظـار العالم

في الحقيقة هناك مستويان للعالمية؛ أحدهما العالمية من حيث تعلقها بالمستوى القيمي الإنساني العام، وأما المستوى الآخر فهو العالمية من حيث تعلقها بهيمنة النموذج الغربي خلال القرنين الأخيرين -والقرن العشرين بالأخص- وذلك من خلال انتشار أنماط الحياة الغربية، والصناعات، وأساليب الاتصال والإنتاج الغربية في العالم.
 

فأما العالمية القيمية فهي قيم مبدئية تتمثل في تلك القيم المفتوحة والمستوعبة للتطلعات الإنسانية، والمتجاوزة للأطر العرقية والأيديولوجية واللغوية، وكل المحليات أو النماذج الجزئية. وهذه نجدها تتحقق في القيم التي جاء بها الأنبياء، وأكدت عليها كتبهم وتعاليمهم، وذكرها القرآن الكريم، وأعلنت عنها الرسالة الخاتمة مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. حيث إن القيم القرآنية قيم موضوعية ومفتوحة غير حصرية، وبعيدة عن الإصر والأغلال التي تكبل إنسانية الإنسان، وقادرة على استيعاب كل تطلعات الإنسان، والاستجابة لكل آفاقه والإحاطة بها، دون اختصاص بعرق معين أو لغة معينة أو جهة معينة.

 

وأما القيم المعولمة فهي قيم إجرائية استعمالية تقوم بها الحضارة الغربية من خلال التشريع للقيم والنماذج والمنتجات الغربية لجعلها محط أنظـار العالم، وكذا من خلال التنكر لتاريخ الشعوب والحضارات الأخرى، والضغط الغربي على هذه الحضارات لتتبنى نتائج الرؤية الغربية المتمركزة حول ذاتها، ذات المرتكز والأصالة المادية، لتجعل منه النمط الأوحد الغالب والسائد في العالم، وهي عملية قصدية كان أهم أدواتها الاستعمار والعنصرية والرؤية الحداثية ومشروع الحداثة والفلسفات الحداثية، والرؤية المتحيزة ضد غير الغربي؛ أي مشروع العولمة.

 

ولا شك أن هناك فرق كبير بين المستويين من حيث الإنسانية ومن حيث القبول بها بين الناس على اختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم ومواقعهم؛ فإذا كانت الأولى متعلقة بالإنسان باعتباره إنسانا، فإن الثانية لها حمولتها الثقافية المحصورة في تجربة مجتمع وشعب معين، ولا تحمل في جوهرها القدرة على أن يتبناها الآخرون مبدئيا، بل تتوسل في انتشارها وهيمنتها على أدوات القوة والهيمنة والفرض بأدوات غير عادلة وغير منفتحة.

 

نماذج للترويج للمحلي على أنه عالمي:

ولعلنا لو تأملنا مشاهدنا اليومية في مختلف المستويات والأنشطة سنلحظ سعيا حثيثا من مؤسسات الاعلام الكبرى والدول المهيمنة والشركات العابرة للقارات لحمل العالم على تبني ما هو محلي من أنماط الحياة وتصويره على أنه عالمي، مع عدم قبول مناقشة ذلك.

 

كثير مما يروج له على أنه قيم عالمية يفتقر إلى معايير العلمية عقلا وشرعا وفطرة، ولهذا فعلينا إما أن نحتكم إلى معايير عالمية متفق عليها أو كلٌّ يحتكم إلى ثقافته

فمثلا أثناء حضور ابنتي لدورة من دورات التعريف بحقوق المرأة التي تنظمها "الأمم المتحدة" ومكاتبها الإقليمية، ضرب منظم الدورة التدريبية مثالاً عن "ظلم المرأة" بحسبه بمسألة ما أسماه هو زواج البنات القاصرات في بعض البيئات العربية والاسلامية، واعتبر ذلك امر يهدد حياة المرأة وحريتها واستمتاعها بشبابها ويمنعها من التعليم ويحملها المسؤولية قبل الوقت، في حين أنه نسي أو تغافل أن يضرب مثلا بأنواع أخرى لظلم المرأة، كما الحال في وقوف صبايا شبه عاريات أمام سيارات السباق، أو مرافقات للملاكمين، أو عارضات مفاتن في البارات، أو موفرات متعة في الفنادق، أو أمثلة أخرى عن إجبار البنات الصغيرات بطرق الإغراء المختلفة والاقناع المزيف على اتخاذ أخدان (boyfriend) حيث تظهر الممتنعة عن ذلك كأنها شاذة عن الفطرة.

 

هذا ما تقوم به كثير من منظمات الأمم المتحدة المتعلقة بالمرأة والفتاة والأسرة وغيرها، مع العلم أن الأمم المتحدة قامت أساسا على استبعاد وجودي للدين، بحيث لا يقبل إلا باعتباره تعبيرا عن شأن شخصي. كما أن هناك أمثلك كثيرة للترويج لأنماط اللباس، وللذوق العام، وللعادات الغربية عموما والأمريكية بوجه خاص على أنها قيم عالمية وأنماط عيش عالمية، وهذا مخالف لأبسط أبجديات الحقيقة والعالمية.

 

إما معايير عالمية أو كلٌّ يحتكم إلى ثقافته:

ولهذا علينا أن نعي تماما أن كثيرا مما يروج له على أنه قيم عالمية يفتقر إلى معايير العلمية عقلا وشرعا وفطرة، ولهذا فعلينا إما أن نحتكم إلى معايير عالمية متفق عليها أو كلٌّ يحتكم إلى ثقافته، لأن الثقافة فيها من الخصوصية ما يمنعها من ان تكون عالمية، لنها مرتبطة بسياق اجتماعي وزماني وحضاري محدد، وليس فيها من العالمية إلا بمقدار ما تتضمن من عناصر إنسانية يمكن تعميمها موضوعيا وليس بأدوات الهيمنة.

 

أما تعميم نماذج ثقافية محلية على أساس أنها معايير للحرية والعدل والإنسانية، فإن ذلك يحتاج إلى نقاش كبير، لأسس اعتبارها معايير إنسانية وعالمية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.