هل يمكن لنا مثلًا أنْ نتخيّل أن تتعافى مصر دون إنهاء طاغيتها بشكل مرئيّ وصريح، أو هل يمكن أنْ نتصور وقاية سوريا من التحول إلى رماد مبكٍ دون أنْ تصفي طاغيتها في مشهد احتفاليّ في فضاء عموميّ؟.
5
ما يبدو لنا محسومًا لهذه الجهة، ليس محسومًا تمامًا في مواضع عديدة، في الفلسفة والسياسة والأدب، ثمّة نقاش يشكك بأخلاقيّة "إعدام الطاغيّة"، وهو جدل غير جديد وطويل، وله اليوم تظاهرات في مجال السياسة والفكر والقانون. فعلى إثر الثورات العربيّة اتضح لنا أنّ تيارات سياسيّة وفكريّة، عربيّة وغربيّة، من مغرضة ومن خالية من الغرض، من يساريّة وليبراليّة وديمقراطيّة، وإسلاميّة أو متديّنة، ومن أكاديميا ومن غير مصنّفة.
بعد الثورات العربيّة، كحالة ردّة أو تفاقم أو تفسّخ، ظهر ما كان يخشى منه، حالة مفرطة من الطغيان، وحشود من الطغاة الرسميّين وشبه الرسميّين وغير الرسميّين. |
تصوّرت أنّ الأمور يجب أن تمضي على نحو عقيم ومناسب، وحيال احتدام وتعنّف الصراع في المدن والقرى العربيّة، ظهر نحوٌ غاندويٌّ مبالغ فيه أكثر وأكثر على هيئة طروحات ثورة وتغيير وعدالة انتقاليّة مثيرة للقشعريرة. بعضهم يريد أنْ يقضي على طاغية ينقض بمقاتلته الحربيّة من خلال القبل والحبّ، وبعضهم يريد أنْ يقنعه حتى يموت، وبعضهم يريد أن يستدرجه إلى عمليّة ديمقراطيّة ينسمّ منها بالتقاليد والإجراءات والمبادئ، وآخر يريد جرّه إلى مفاوضات تصيبه بالضجر وتعب الأعصاب من ضبط النفس. ببساطة، لم يعد يتوفر إجماعٌ رادعٌ متعدد المصدر على ضرورة تعليق الطاغية تعليقًا احتفاليًّا.
لا عجب إذًا من أنّ الطاغية لم يعد يخف من مصيره الأسود، لأنّ مصيره الأسود، ببساطة، لم يعد مطروحًا على الطاولة. ما هو مطروح عمومًا نخبويًّا، من الساسة والمثقفين والأكاديميا، من أصحاب النيّة الحسنة أو السيئة، هو إجراءات عدالة تلغي العدالة نفسها، المطلوب هو الإجراءات لا العدالة في واقع الأمر. ولا عجب إذًا، وهذا موقف عام، غربيّ وشرقيّ، نخبويّ وشبه عموميّ، صاحب الثورات، فلا عجب أن يواصل السيسي وبشار اتحافنا بقهقهاتهم البليدة والمقززة في كلّ مناسبة.
يرتبط هذا الشأن حقيقة من جهة أخرى بمقاربة العنف السياسيّ في الفلسفة السياسيّة المعاصرة وطبيعة التخيل لطبيعة الانتقال والتغيير، أو لما يجب أنْ يكون عليه. وهذا لا يتعلّق فقط بمراكز بحثيّة أو سياسيّة، إنْ صح التعبير، تعادي عمليّة التغيير أو الانتقال في بلداننا، أو توالي الطغيان والطاغية؛ وإنّما يتعلق بنظرة نخب وأحزاب واتجاهات سياسيّة وفكريّة واسعة لهذه الجهة، كما وتتعلق بأنماط حياة وتفكير فئات وطبقات وأجيال عريضة لمقاربة السياسيّ بشكل عام، وأعني للمغامرة في ولوج حدث ما، وطبيعة المنتظر منه، واستحقاقه لدرجة من المغامرة أو التضحية أو المقاومة، من عدم استحقاقه.
فإذا كنّا نتوقّع أنّ مقارعة الطاغية، كشخص وشخصيّة ونمط سياسيّ أو اجتماعيّ، دينيّ المنشأ أو علمانيّة، يتضمّن كفاحًا يتطلب الصبر والمصابرة، ويتطلب المجالدة والمجاهدة، وهجر الكسل والترف والهدوء، ممّا يعتريه الذلة والمسكنة أو ممّا لا يعتريه، والتخليّ عن البلادة المعرفيّة والنظريّة والأخلاقيّة؛ فإنّ هذا سيصطدم قبل كلّ شيء مع ذوق عاميّ ونخبويّ شائع غير متوافق مع ذلك، وغير قابل لتقبل قصة صلبة وكبيرة، كي لا نقول إيديولوجيا، حاملة لهذا الكفاح العظيم المتوقّع. هذا، كما أرى يجعل الطاغية يرى نفسه في خير وأمان.
لدينا على هذا الجانب جدل فلسفيّ وسياسيّ و"قانونيّ"، له أبعاد أخلاقيّة وفق مرجعيات معيّنة، تستقبح العنف عمومًا، وتكره إلى حدّ أو آخر اغتيال الطاغيّة، أو إعدامه، أو استخدام العنف ضدّه، وتتنوع الحجج المقدّمة في هذا الصدد، وإنْ كان أغلب المقاربات برغماتيّة الطابع تتعلق بمقدار الجدوى، دفع الضرر أو جلب المصلحة، المتوقّف على ذلك.
ولكم أنْ تلاحظوا بسرعة تنوّع التيارات والاتجاهات التي قد تتبنّى هذا، من صوفيّة وسلفيّة من جانب، ومن يساريّة وليبراليّة وديمقراطيّة من جانب ثانٍ، ومن أكاديميا وخبراء من جانب ثالث. باختصار نحن أمام حالة هي صدر لطغيان لا ينفد، اختلاف على تعريف الطاغية، اختلاف على تنزيل التعريف، اختلاف على مضار الطاغية، اختلاف على مقاتلة الطاغية، عدم الصبر حين مقاتلة الطاغية، وقبل ذلك عدم الوعي بمصادر الطاغية، والتساهل في كبتها.
6
لقد تم مؤخراً التوسع، على خلفية الثورات العربية والثورات المضادة والحروب والقلاقل، والخيبة والحيرة العامة؛ تم التوسع في أزمة الدولة العربية الحديثة ما بعد الكولينالية، وأزمة التحديث نفسها، ومشكلة سؤال الدولة والهوية. وإن هذا عموماً يمثل في طياته مصادر طاغية لا تنفد، فلقد شهدت هذه الأوضاع ظهور الجيل الأول من الطغاة الحديثين، وهم إلى حدّ ما قدموا أنفسهم على أنهم إما طغاة ضروريّون أو طغاة مستنيرون أو طغاة خيرٌ من لا شيء.
ضباط أو طغم عسكرية سطت على السلطة، وجاءت بانقلابات يتم دعمها خارجيًا بشكل سابق أو لاحق من قبل أطراف خارجية أو من قبل فئات وقطاعات وجهات وطبقات شعبية تقتنع بخطابها على أرضية مكونات ثقافية واجتماعية واقتصادية متشابكة عليلة. وملوك تغلبوا فتمّ لهم الأمر، وخلعوا على أنفسهم، كما خلعت عليهم بطانة الطاغية، ألقاب تستمد شرعيتها ومشروعيتها من فقه ما للدين، فهم ملك ضروري أو وقائي، به ضمان المجتمع والدولة من الانزلاق نحو فوضى الدهماء، أو ضياع الأمر لصالح مذهب منافس أو مختلف، أو حدوث كوارث تتعلق بقلة أو ندرة مصادر معيشية.
وبعد الثورات العربيّة، كحالة ردّة أو تفاقم أو تفسّخ، ظهر ما كان يخشى منه، حالة مفرطة من الطغيان، وحشود من الطغاة الرسميّين وشبه الرسميّين وغير الرسميّين، وطغاة "دولتيّين" أو "شبه دولتيّين". ولقد انزلق هؤلاء (الرسميّون ومن معهم) إلى ارتكاب جرائم تقتيل وتدمير إلى حدّ يمكن معه تصور أنّ مصطلح الطاغية لم يوضع لوصف مثل هذه المخلوقات والممارسات، وأنّ الطغيان لا يختص بوصف مثل هذه الأنظمة والتنظيمات الرديفة.
طغاة تقليديّون، وأعني بهم، رؤساء أشباه_دول أو قادة انقلابات عسكرية، يخوضون حروب وحشية ضد "مواطنيهم" أو رعاياهم، ويرعاهم نمطٌ إقليميّ دوليّ "طغيانيّ" يتمثل بنظام إيران وهو نظام طغيان موصوف يسعى لتحقيق نهاية ما على الأرض، ونظام روسيا وهو نظام طغمة مخابراتيّة وقح يسعى لاستعادة مجد من الطغيان، وتحت هؤلاء الطغاة حشد طغاة من الدرجة الثانية أشد قسوة وبشاعة ويدعمهم هؤلاء بوصفهم أمراء طوائف ومليشيات طائفية تنشط هنا وهناك.
وفي المقابل، وفيما يبدو ظاهريًا أنّه ضدّهم، نشأت جماعة أو جماعتيّ طغيان أو نحو ذلك مقابلة لهم استغلت كما هي العادة الفوضى وجمّعت حولها طغاة ناقمين أو حاقدين أو انتهازيّين تحت عناوين لها علاقة بالتهيئة للنهاية أو للطوبيا ما قبل النهاية. وبين الطرفين المتطرفين المتقابلين تنتشر نماذج وحالات، مجموعات وفرادًا، غير قليلة ملتبسة لجهة قطعيّتها مع مصادر الطاغيّة ومتلازمات ما قبل الطغيان.
من جهة أخرى، على صلة بموضوع الثورة، والاضطراب، يظهر عادة جدل الشباب والشيوخ، والجيل القديم والجيل الجديد، ومن بين ثنايا ذلك يعمل شكٌّ في النفوس فيما يخص مصدر الطاغية. الشباب مقترنًا بالحماسة والطموح، مصدر للطاغية، وإذ تميل الصورة النمطية في الأدب والتاريخ إلى تخيّل الطاغية كرجل مسن وبغيض وبليد يقاوم رغبة شعبه، والأجيال الصاعدة، في التغير والتغيير والفرح، فإن إعادة النظر تجد أن الطغاة من الشباب كانوا أكثر، لقد كانوا مجرد طموحين متحمسين للتغيير أو الشهرة، مسرفين في الاعتقاد بإمكانية تحقيق طوبيا ما هنا وهناك، أو بتأسيس مزرعة سعيدة. على سبيل المثال وممّا يذكر في هذا الصدد تضمنت ملاحم هيمورس حوافز ومصادر ملهمة للطاغية، نعم لقد تمرد آخيل على ملك الملوك، أحد الطغاة المؤسسين، لكن اخيل نفسه تحول إلى مجرد طاغية فتاك وطموح.
الطاغية العربي.. طاغية تابع ورخيص وقليل الأهميّة للطغاة الكبار ورهين وهيّن للطغاة الصغار الذين يعملون معه أو تحته. |
لقد اقترنت الحكمة ذهنيًا بالتقدم بالعمر، حيث يميل المرء للتشبث بالدنيا ومن ثم الحذر والتعقل وعدم المغامرة والركون للحكمة، واقترن الشباب بالتهوّر والحماسة والتصدّر والجنوح لإثبات الذات وفرضها. لا يوجد معايير حديّة، لكنّ الشباب مع الحماس والاستغناء والطموح مصادر طاغية لا جدال فيها، وإذا ما اقترنت مع اضطراب أو ثورة، فيجب على المرء الخوف والحذر على نفسه.
لقد نظر عادة للثورات، مقترنة بتهوّر الشباب إلى هذا الحدّ أو ذاك؛ نظر لهذا المركّب من الطموح والاضطراب بوصفه حالة منذرة بظهور نمط طغيانيّ أو استبدادي ما، وفي التنظير السياسيّ المعاصر نلاحظ ذلك عند منظريّ الديمقراطيّة، أنّ الثورات، لا سيما التي تنزلق للعنف، هي مصدر قلق لناحية احتماليّة أنْ يتمخض عنها نمط لا ديمقراطيّ، وهذا يمكن عطفه على نظرة شبه ثابتة تقرن المرحلة الثوريّة الأولى ومن ثمّ الثورة المضادة، وما يتلوها من صراعات غير هاجعة، من توليد أنظمة ونماذج طغيانيّة مضادة أو كحالة ردّة أو انحراف.
ما صنف هؤلاء الطغاة العرب المعاصرين؟. أهم طغاة من نمط قبيح فريد جديد؟ أم يمكن مقارنتهم بطغاة سابقين؟ مع شدة أكبر أو اقلّ؟. إنّ الطاغية العربيّ المعاصر -بشار الأسد مثالًا- من حيث الأساس طاغية تافه ووضيع وممّل، ولذلك هو لئيم وحقود وغدّار، بلا شرف ولا حتى ادعاءً، ليس له بطبيعة الحال أي صفة من صفات الطغاة المؤسّسين أو المعتبرين أو الطموحين، ولا يندرج تحت أيّ تصنيف ميعاريّ أو تحقيب محترم لتاريخ الطغيان والطغاة، ونشك إذا ما كانت المفردة قد استخدمت بداية لتطلق على مثله.
إنّه طاغية تابع ورخيص وقليل الأهميّة للطغاة الكبار ورهين وهيّن للطغاة الصغار الذين يعملون معه أو تحته. ومع ذلك يواصل الضحك والغباء بفخر -السيسي أيضًا- في كلماته ولقاءاته على نحو يثير نفور النفس الطبيعية، ليخفي خلف وجهه البليد الأصفر نفسًا مريضة وخسيسة.
كيف يمكن وصف طاغية من هذا الصنف؟ جزّار معياريّ من هذا الحجم؟ وحش جلده مبقّع بدم الأبرياء ويده ملطخة بالعار ووجهه ملطّخ بالخزي؟ هل هو سعيد حقًّا؟ وحين ينظر في المرآة هل يرى شيئًا؟ ماذا يقول في نفسه حين يتعرض لتوبيخ من طاغية دوليّ أو إقليميّ لأنه أخفق في ارتكاب جريمة هنا أو هناك؟ كيف يشعر إذا ما أهانه أحد طغاة الميلشيات أو الجماعات ممّن يفترض بهم أنّهم دونه، والذين تغولوا عليه بوصفه طاغية عامًّا ورسميًّا، حيث تكوّن لدينا اليوم من هؤلاء مستنقع طغيانيّ آسن!.