شعار قسم مدونات

في التعليم(5) صديقي الذي قتله التعليم!

blogs-التعليم العربي

عبدالحميد، أو بن عودة كما كان يسمى في المدرسة، صديقي في التعليم الابتدائي. لا أخفيكم أن سلسلة "في التعليم" هذه كانت أول ما كانت لروحه الطيبة. وهذه المدونة آخر أجزاء السلسلة خصصتها لأقاسمكم طرفا من حياته، عبد الحميد مات، ونظامنا التعليمي من قتله!
 

لقد كان باديا جدا لكل من يلاحظه تلك الطاقة الهائلة التي يمتلكها، لم يكن يرضى بالقعود في فناء المدرسة ولا بالسكوت في قسمه، كان جنوحه لإظهار نفسه وشخصيته باديا للعيان، هذا الظهور كان طيشا في نظر المعلمين الذين تداولوا على تدريسنا، كان بالنسبة لهم شغبا يحتاج التعنيف الدائم والمستمر، وبالفعل كان التعنيف حاضرا وظل مستمرا عليه.
 

نظامنا التربوي يقتل يا سادة! ودولنا تدفع كل عام ملايين الدولارات في البناء والتشييد والتوظيف لقتل الكثير منا، تدفع المال والوقت والجهد لتقتل الطموحات وتذبح الأماني البريئة في مهدها.

عادة ما كنت أرافقه إلى بيتهم، منزل قديم وسط المدينة مبني من حجارة، أول ما تطأ أقدامنا عتبة الباب تقابلنا والدته في ساحة المنزل تحضر الكاوكاو والفول السوداني المملح لوالده، والده كان بائع مكسرات، لقد كانت حالتهم المادية تحوم حول حد الكفاف، مرة عن يمينه وأخرى عن شماله، رغم ذلك فأول ما كانت تبادرنا به أمه جل الوقت حفنة من الكاوكاو لكل منا، سائلة عن اليوم كيف كان في القسم، ثم لا نكاد ننهي الجواب حتى تبدأ في سيل من النصائح باتجاهه، يا بني "اقرأ على روحك وخطيك من المشاكل".
 

عبد الحميد كان في نظر جميع من درسونا الفاشل المشاغب، صحيح انه لم يكن ناجحا في الدراسة، لكن طاقته وحبه للفنون القتالية كان ينبيء بأن هذا الطفل العفوي يمكن ببساطة متناهية أن ينضم إلى صفوف الناجحين الموهوبين فيما يحب، كان الأمر يحتاج فقط إلى عناية بموهبته وتشجيعه عليها، لكن كيف لذلك أن يكون في مجتمع يؤمن أن النجاح واحد ووحيد، ولا يكمن إلا في المدرسة النظامية التي لا تؤمن بدورها إلا بالتلقين الأبوي كوسيلة لحصد الشهادة والانصراف إلى وظيفة عامة في الغالب.
 

لا يمكنني ما حييت أن أنسى مشاهد التعذيب داخل القسم، "الفلاقة" كما كنا نسميها، وهي الضرب على الرجل الحافية، كان مشهد التلاميذ الذين لم ينجزوا واجباتهم وهم يرجعون إلى أماكنهم حبوا من شدة تأثير الفلاقة على أجرلهم "الطفولية" تعذيبا حقيقيا، ليس لهم فقط بل حتى لمن أدى الواجب !، فحالات الصراخ والدموع وشدة الضرب كانت تعذيبا نفسيا لكل مشاهد.
 

لم يلبث عبد الحميد في المؤسسة التربوية إلا قليلا، فقد سمعت، بعد أن فرقنا رسوبه وصعودي، بعد سنوات قليلة أنه تم طرده وتوجه نحو الحياة العملية، وأي حياة، كل الرسائل المباشرة وغير المباشرة بأنه فاشل ومشاغب وإرهابي وليس له مستقبل، كل تلك الرسائل التي "تعلمها" من المعلمين أتت أكلها، لقد أصبح عبد الحميد بعد ذلك بائعا للزطلة -القنب الهندي أو الكيف المعالج كما يسمى-.

ولأنه لم يكن يرضى بأن يكون منسيا في الجماعات، فقد أبدع في التسويق لنفسه على أنه فاعل مهم في ذلك العالم اللعين الذي صدره إليه نظامنا التعليمي. لقد صار بعد ذلك من أوائل المطالبين بهم من طرف الشرطة. في آخر سنوات حياته ظل مطاردا من طرف البوليس، لذلك كان حله للنجاة من السجن أن يبيت في العراء، وبالفعل ظل طيلة أشهر طويلة "مشردا" إلى أن وافته المنية بردا، لقد مات من جراء البرد الشديد قبل عام من الآن تقريبا.
 

مات عبد الحميد إذا في نظر الناس قبل عام، لكنه في الحقيقة مات قبل ذلك بسنوات، مات حينما اتهم بأن طاقته التي هي حق أي طفل هي طاقة سلبية، طاقة تستوجب القمع، مات حينما اتهم بأنه فاشل، وأن أي مستقبل خارج الدراسة لن ينفعه، مات حينما ماتت مواهبه داخله ومات معها الأمل في حياة أهدأ وأفضل.
 

كم من متفوق في الأدب وجد نفسه في تخصص إداري بالجامعة فقط لأن المشهور أن المتفوقين يختارون ذاك التخصص وألا مستقبل لتخصصات الأدب.

نظامنا التربوي يقتل يا سادة! ودولنا تدفع كل عام ملايين الدولارات في البناء والتشييد والتوظيف لقتل الكثير منا، تدفع المال والوقت والجهد لتقتل الطموحات وتذبح الأماني البريئة في مهدها. لننظر حولنا! كم من موهوب في الرسم والرياضة ومختلف الفنون قتله نظام رسمي يفرض عليه التوجه نحو ميدان علمي لا يحبه وليس بارعا فيه، إنها الطامة، والطامة الكبرى أن الأمر لا يتوقف عند الذين لم ينجحوا في المسار العلمي بل يتعداه إلى المتفوقين أيضا!

كم من متفوق في الأدب وجد نفسه في تخصص إداري بالجامعة فقط لأن المشهور أن المتفوقين يختارون ذاك التخصص وأن لا مستقبل لتخصصات الأدب، كم من رياضي متفوق علميا اختار الطب لأن معدل الدخول إلى مدارس الطب عال ولن يقبل بأن "ينزل" ليدرس الرياضة مع من معدلاتهم أدنى، كم وكم.. ليس يسعنا الفضاء لإحصاء الخيبات. إن أي نظام تعليمي لا يرتكز في أساسه على الإنسان سيكون مآله القتل!، سيَقتل ويموت مقتولا، سيكون كذلك ولو صرفت فيه أموال الدنيا كلها.
 

عبد الحميد! لم تكن فاشلا يا رجل، ولا بائع ممنوعات أيضا، تمنيت أن نكبر لأجدك قد خرجت بهذه الحقيقة، تمنيت ذلك لكن العذاب الذي لاقيته في ساحات التعذيب، عفوا في ساحات التعليم، كان شديدا، كان شديد القلب لدرجة أنه قتلك وأنت حي، كان شديد الساعد لأنه تحالف مع المدرسة والمعلم والمدير والوزير والرئيس والمال العام والمجتمع ليقتلوك، كان شديدا لدرجة أنه لم يرحمك ساعة من رسائل التيئيس، قتلك وقتل الطموحات في كثير ممن "يعيشون" بيننا.
رحمك الله صديقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.