تتحاور الحضارات كما يتحاور الإنسان. وتحاور إنسانين من حضارتين مختلفتين هو حوار مصغر لحضارتين، حيث يقوم كل واحد منهما بشرح وجهة نظره والدفاع عنها بكل السبل الممكنة. وكل منهما ينطلق من رؤيته الخاصة عن الكون والإنسان والحياة، وكل منهما يستعمل مصطلحاته الخاصة التي جلبها معه من حضارته. وقد يستعص على أحدهما فهم مصطلح معين فيستفسر الآخر عن مفهومه وهكذا، هذا في حالة الحوار المصغر لحوار الحضارات!
قد بليت الأمة العربية والإسلامية اليوم بترسانة من المصطلحات الموجهة قصدا لهدم ثوابتها الحضارية، ومرتكزاتها العقدية، فالمصطلح الوافد طغى على شتى المجالات المعرفية في الأمة. |
أما في حالة الحوار في حجمه الحقيقي فإنه لا يكون بمثل هذه الودية، وإنما يكون أكثر شراسة! حيث يتم هذا الحوار في العصر الراهن، في حقبة العولمة والعالم/القرية، عبر آلاف الكتب والمجالات والصحف والقنوات الفضائية والمخترعات التكنولوجية والمنتجات الصناعية والحروب النفسية وأسلحة الدمار الشامل والاستلاب الحضاري والغزو الفكري! وغيرها من الوسائل التي تتحاور بها الحضارات.
وإذا ما استثنينا الحوارات التي تجري في ساحات القتال، إذ أنه لا طاقة لنا بها. وركزنا على الحوارات الثقافية الناعمة، فإن هذه الأخيرة أيضا يستعمل فيها من الأسلحة الفتاكة ما الله به عليم. وأهم سلاح يستعمل في هذا النوع من الحوارات هو المصطلحات! لما تحمل هذه الأخيرة من طاقة سلبية أو إيجابية ومن قدرة على خلخلة النسق المفهوم الحضاري للحضارة المستهدفة. فالمصطلح مجرد وعاء يحمل ما يملأ به ولا يمكن تصور مصطلح حضاري من غير حمولة حضارية وفكرية ودينية.
وقد بليت الأمة العربية والإسلامية اليوم بترسانة من المصطلحات الموجهة قصدا لهدم ثوابتها الحضارية، ومرتكزاتها العقدية، فالمصطلح الوافد طغى على شتى المجالات المعرفية في الأمة. ولم يكد يخلو منه مجال! فالعلوم المادية سيطر عليها الوافد لسانا ومفهوما ومنهجا، والعلوم الإنسانة مفهوما ومنهجا، بل حتى الكتابات التي تصنف في دائرة الفكر الإسلامي هي الأخرى أيضا لم تسلم من المصطلح الوافد وأضراره! ومن هنا كانت الضرورة ملحة لوضع منهج للتعامل مع هذه المصطلحات إن قبولا، أو رفضا، أو استصلاحا، على حسب حاجة الأمة ومصالحها الشرعية.
والمصطلح الوافد ليس قاصرا على العلوم فقط، وليس مقتصرا على جهة الغرب أيضا، فقد أصبحت تفد إلينا مصطلحات ذات طبيعة دينية من الشرق، كمصطلح اليوغا! وغيره من المصطلحات التي أصبحت تغزو فضاءنا المعرفي نتيجة التذبذب الهوياتي الذي تعيشه الأمة اليوم. والمصطلحات الوافدة ليست على مستوى واحد من الخطورة، فباعتبار الظرفية التاريخية والحضارية التي وفدت إلينا فيها يمكن تحديد خطورتها وضرورة استعجال التعامل معها.
أغلب المصطلحات الحضارية التي دخلت إلى ثقافتنا الإسلامية، إنما فرضت فرضا وجندت لها كل الوسائل من إعلام بكل ألوانه، وأموال، وحروب نفسية، وأخرى غير نفسية |
ويمكن تقسيم المصطلحات الوافدة باعتبار الظرفية الحضارية إلى ثلاث أنواع:
ـ النوع الأول: وهي المصطلحات الوافدة في حالة الندية الحضارية! أي عندما تكون الحضارة الموفدة والمستقبلة في تقارب على مستوى العطاء الحضاري، بحيث تكون علاقة التأثير والتأثر والأخذ والعطاء من الطرفين، أي أن مقدار الربح والخسارة في عملية التبادل هذه متساو أو متقارب. فعندئذ يمكن أن نقول عن المصطلح الذي وفد إلينا في هذه الظرفية مصطلحا وافدا فهو في هذه الحالة في حكم الزائر.
ـ النوع الثاني: وهي المصطلحات المستوردة! وهذا النوع من المصطلحات يختلف عن النوع الأول بحيث أنه يستقدم في حالة الخصاص المصطلحي، أي عندما يكون لذا الحضارة المستقبلة نقص في مجال من المجالات فتضطر آنذاك لاستيراد مصطلح لتغطية الحاجة. وهذه المصطلحات المستوردة غالبا ما تكون في حقل العلوم المادية المختلفة أو ما يتعلق بالعلوم التطبيقية والمخترعات التقنية أو في حالة العلوم المؤسسة حديثا. ويكون هذا الاستيراد من خلال الترجمة أو التعريب (إذا تعلق الأمر بالحضارة الإسلامية).
ـ النوع الثالث من المصطلحات: وهي المصطلحات المصدرة والمفروضة فرضا على الأمة أو الحضارة المستقبلة، وهذا النوع من التعامل والتناقح والتبادل المصطلحي لا يكون في حالة الندية الحضارية، ولا في حال الخصاص المصطلحي، ولا في حالة السبق العلمي المحدود، وإنما يكون في حالة التبعية الحضارية، ففي هذه الحالة تعمد الحضارة المصدرة إلى فرض مصطلحاتها الحضارية بما يتوافق مع مصالحها الذاتية وأهدافها الاستراتيجية. وتجند كل السبل المتاحة من أجل فرض مصطلحاتها ومفاهيمها الحضارية.
وهذا هو الواقع للأمة الإسلامية اليوم، وأغلب المصطلحات الحضارية التي دخلت إلى ثقافتنا الإسلامية، إنما فرضت فرضا وجندت لها كل الوسائل من إعلام بكل ألوانه، وأموال، وحروب نفسية، وأخرى غير نفسية، وخذ على سبيل المثال مصطلح الإرهاب! الذي أكتسح أدبيات المسلمين ونقاشاتهم، لا يمكن تصنيف أو وصف وفود هذا المصطلح إلى من خلال الفرض القسري. بحيث أنه لم يأتي في ظل الخصاص المصطلحي للأمة ولم يأتي في ظل الندية في التبادل الحضاري وإنما دخل إلى حقولنا الدلالية في عهد التبعية.
انطلاقا مما سبق يتحتم البحث في محاولة لوضع منهج للتعامل مع هذا المصطلح الحضاري الوافد. حماية لحقولنا الدلالية ولمعاجمنا العامة والخاصة، وحماية في نهاية المطاف لما تبقى من وجودنا الحضاري.