شعار قسم مدونات

فيدل كاسترو.. رحل القائد

Blogs - Fidel Castro
"قريبا سيكون عمري تسعين عاما، قريبا سأكون مثل الآخرين، الكل يأتي دوره" هكذا تحدث الزعيم الكوبي فيدل كاسترو في أبريل/نيسان الماضي مخاطبا أعضاء الحزب الشيوعي الكوبي، وكاسرا لعزلة استمرت سنوات دفعه إليها المرض وتقدم العمر.
 

وبعد نحو سبعة أشهر، خرج الشقيق الأصغر راؤول كاسترو، الرئيس الحالي لكوبا، ليعلن وفاة القائد الأعلى للثورة الكوبية، قبل أن يختم بيانه مطلقا الهتاف الشهير للثورة، "حتى النصر دائما".

جثمان "الرفيق فيدل" سيتم حرقه بناء على رغبته، هكذا قال الرئيس راؤول في بيانه المقتضب، لكن من تابعوا العلاقات الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين يدركون أن مثل فيدل كاسترو لن يُنسى من ذاكرة العالم بسهولة، فهو دون جدال واحد من أبرز القادة في القرن العشرين.
 

اشتهر القائد كاسترو بزيه العسكري الأخضر الزيتوني، وسيجاره ولحيته الطويلة، فضلا عن قدراته اللافتة في الخطابة دون كلل أو ملل، فقدم نفسه رمزا للكفاح ضد "الإميريالية الأميركية"

"القائد" بدأ نضاله مبكرا، ففي سن السادسة والعشرين ترشح المحامي الشاب ابن المهاجر الإسباني لعضوية مجلس الشيوخ عن حزب الشعب الكوبي، وفي العام التالي حمل السلاح مشاركا مع مئة مناصر في محاولة للسيطرة على ثكنة "لاموكادا" ثاني موقع عسكري في كوبا، لكن العملية فشلت وتم القبض عليه لتنتهي به هذه الجولة الأولى إلى السجن معاقبا بستة عشر عاما.
 

لكن كاسترو استفاد من عفو عام ليخرج من السجن بعد نحو عامين، فلم يضيّع وقتا وأسس منظمة ثورية شارك معه فيها أخوه راؤول وكذلك الثوري الأرجنتيني الشهير إرنستو تشي جيفارا، وانتهى الأمر بهروب الرئيس باتيستا من البلاد في اليوم الأخير من عام 1958 ليتسلم بعدها فيدل كاسترو رئاسة الوزراء لمدة 17 عاما، قبل أن يصبح رئيسا للبلاد منذ 1976 وحتى 2008.
ومنذ نجاح ثورة مجموعة "باربودوس" أي أصحاب اللحى بقيادة كاسترو، واتجاه الأخير لإقامة جمهورية اشتراكية، كان طبيعيا أن يبدأ الصدام المثير مع الجار العملاق، قطب الرأسمالية في العالم وهو الولايات المتحدة الأميركية.

فالقائد الذي اشتهر بزيه العسكري الأخضر الزيتوني، وسيجاره ولحيته الطويلة، فضلا عن قدراته اللافتة في الخطابة دون كلل أو ملل، قدم نفسه رمزا للكفاح ضد "الإميريالية الأميركية" رغم ان بلاده على مرمى حجر من الإمبراطورية العظمى التي كانت تتسيد العالم مشاركة مع الاتحاد السوفيتي قبل أن ينهار الأخير في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين وتصبح هي سيدة العالم المعاصر بلا منازع.
 

لكن كاسترو اختار طريق التحدي للعملاق الأميركي منذ البداية واستمر على ذلك متحديا 11 رئيسا أميركيا متتاليا، ونجح في تفادي رقم قياسي من محاولات الاغتيال تصل بها بعض التقديرات إلى أكثر من 600 محاولة.

كان مثيرا أن تصمد هذه الدولة الصغيرة في مواجهة العملاق المتوحش وحملاته المتوالية، بداية من عملية إنزال فاشلة في خليج الخنازير أمر بها الرئيس الأميركي جون كينيدي ثم حظر تجاري ومالي فرضه كينيدي أيضا مرورا بحصار بحري فرضته واشنطن إبان أزمة نشر صواريخ نووية سوفيتية في كوبا، قبل أن ينتهي الأمر بسحب الصواريخ مقابل وعد أميركي بعدم غزو كوبا.
 

ولم يكتف كاسترو بتحدي الولايات المتحدة داخل حدوده، وإنما سعى لتصدير الثورة الماركسية على دول أميركا اللاتينية، بل وذهب بعيدا حتى القارة الأفريقية حيث تواجدت قوات كوبية في أنغولا لنحو 15 عاما.

أجبر المرض كاسترو على البعد عن الأضواء قبل أن يعاود الظهور على استحياء عبر استقبال بعض الشخصيات الدولية وكتابة بعض الأفكار والتأملات في الصحافة الكوبية.

وبينما توالى سقوط دول شيوعية عديدة منها الاتحاد السوفيتي نفسه، ظلت كوبا صامدة، وإن تأثر اقتصادها بانهيار الحليف السوفيتي حتى وجد القائد مخرجا عبر تنشيط السياحة داخليا وتدعيم العلاقات خارجيا مع حليفين جديدين هما الصين وفنزويلا.
 

ورغم أن سجل كاسترو في المجال الحقوقي لم يكن ناصعا، مثله في ذلك مثل الكثيرين من أصدقائه وأعدائه على حد سواء، فقد كانت للقائد إنجازات مهمة بدأها بالإصلاح الزراعي ثم الرعاية الصحية للجميع ومحو الأمية. ومع مرور سنوات من القرن الحادي والعشرين بدا أن القرن الجديد ليس قرن الرفيق كاسترو، حيث توالت عليه انتكاسات صحية أجبرته على البدء في التخلي عن سلطاته تدريجيا لشقيقه راؤول ابتداء من 2006 ثم سلمه رئاسة البلاد عام 2008 وأخيرا رئاسة الحزب الشيوعي في 2011.

أجبره المرض على البعد عن الأضواء قبل أن يعاود الظهور على استحياء عبر استقبال بعض الشخصيات الدولية وكتابة بعض الأفكار والتأملات في الصحافة الكوبية، حتى حانت لحظة النهاية للرجل الذي لخص صديقه الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز أبرز صفاته قائلا "صبر لا يقهر، وانضباط حديدي، وقوة مخيلة تسمح له بقهر أي طارئ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.