شعار قسم مدونات

الجزيرة وصناعة الوعي

blogs - aljazeera

نتفق مع الجزيرة كثيراً، ونختلف أحياناً، وهذه سنة الكون وطبيعة الأشياء، فلا يُمكن أن تتوافق تماماً مع أياً كان وفي كل شيء، والاختلاف هو الذي يمنحها نكهة لذيذة، تجعلك مدمناً عليها، وإن شعرت بلسعة أو حرقة وربما مراراً.
 

والجزيرة قد أنهت عامها العشرين وهي تحلق في الفضاء الإعلامي الذي يتوسع يوماً بعد يوم، لا بُدَّ أن نعترف بفضلها في صناعة الوعي عند المواطن العربي من الخليج إلى المحيط، وما تعداهما شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، وتأثيرها في الرأي العام العربي والأجنبي كبير وواضح، يُؤخذ في الحسبان عند رسم السياسات، ووضع السيناريوهات، وحياكة المؤامرات على دول المنطقة.
 

لم تعد الجزيرة الآن مجرد قناة فضائية، بل أصبحت شبكة واسعة ضخمة، ملء السمع والبصر، تمتد في جميع الفضاءات، وتغزو كل المجالات، وبعدة لغات.

قبل شروق شمس الجزيرة، كان المواطن العربي مغيباً تماماً عن الواقع، يعيش في ظلمات التجهيل الرسمي، منسي في دهاليز التهميش، لا يدري عما يجري حوله أو حتى بين قدميه، ولا يعرف إلا ما تردده الأبواق الرسمية منذ قرون من دجل وكذب ونفاق وسطحية وقلب الحقائق، وتسبيح بحمد السلطة وتأليهها.
 

ولدت الجزيرة نسيج وحدها، على الأقل عربياً، لا يهم كثيراً أن نبحث عن الدوافع والأسباب ولماذا؟ وكيف؟ ولمن؟ فهذه مهمة التاريخ والباحثين بعد فوات الأوان.
 

ولكن ما يهمنا حقيقة أثر الجزيرة الكبير والعميق على المواطن العربي الذي تفتحت عيناه على واقعه البائس، وأدرك أنه مسحوق حتى النخاع، مهضوم الحقوق، ضائع، مشتت، يُعامل كفرد في قطيع، ليس له من الأمر شيء، يُعطى الفتات الذي بالكاد يقيم أوده، وتُنهب أمواله تحت مسميات قانونية لا يستطيع حيالها إلا الإذعان والاستسلام.
 

ليس مهماً الآن أن يتحرك المواطن العربي، وقد فعلها في غير دولة، ولكن المهم أن يعي ويُدرك ويفهم، والأيام كفيلة بأن يتحول كل ذلك إلى فعل مؤثر، وحركة قوية، وتغيير الحياة إلى الأفضل، هذه الحياة التي لم يعرفها العربي بعد، فهو يعيش على هامشها، ولا يشعر بها إلا إذا سافر غرباً وشرقاً، فيدرك أنه يعيش في الدرك الأسفل من الحياة.
 

الأمر المهم الآخر، أنَّ فضائية الجزيرة بما أحدثته من ثورة في الإعلام العربي، نوعاً وشكلاً ومدرسة ومنهجية، أدت إلى ظهور فضائيات بالمئات متأثرة بها، جزئياً أو كلياً، ولا ينكر أحد أنَّ معظم القنوات الفضائية العربية التي ولدت بعد الجزيرة، قد تأثرت بها، فقد فتحت الجزيرة لها الطريق، وكشفت لها السر، ومنحتها التدريب المجاني بالتقليد عن بعد.
 

هذه الفضائيات، وخاصة المنافسة للجزيرة، ساهمت في زيادة جرعة الوعي، بل وأدت إلى تطور الوعي، وكشف الحقائق، والتنافس في الوصول إلى الخبر والمعلومة من أي مكان ولأي مكان، فأصبح المواطن العربي يحلل ويقارن ويوازن ويفكر ليتبين الحقيقة، وأين وجه الصواب عند الاختلاف وتضارب الأخبار، ومن صاحب الحق إذا تعدد من يدعيه؛ وكل ذلك يُحسب للجزيرة، ويُضاف إلى رصيدها المكتنز.
 

لم تعد الجزيرة الآن مجرد قناة فضائية، بل أصبحت شبكة واسعة ضخمة، ملء السمع والبصر، تمتد في جميع الفضاءات، وتغزو كل المجالات، وبعدة لغات، تتوسع يوماً بين يوم، ويتزايد تأثيرها وسلطتها وسطوتها، وسط قليل من الفضائيات المحترمة المقدرة، وكثير من فضائيات الحارات والأزقة والحانات، أما القنوات الرسمية فمعظمها طي النسيان، تغط في نوم عميق، ليس لها حضور إلا في كشوف ميزانية الدولة، إذ تستنزف الأموال دون أي فائدة تُذكر.
 

الجزيرة سواء اتفقنا معها أو اختلفنا فهي إمبراطورية إعلامية، فاق تأثيرها وفاعليتها دولاً ومنظمات وهيئات وزعماء وحكام، يُحسب لها ألف حساب.

وللجزيرة في العالم الافتراضي حضور لافت، وتأثير بالغ، ومتابعة ضخمة، ليس آخرها مدونات الجزيرة، التي تُعدُّ إضافة مميزة وكبيرة لشبكة الجزيرة، والأمل أن تتنوع إضافات الجزيرة نحو قنوات ثقافية وعلمية متخصصة، ودار نشر، تساهم في نهضة علمية وثقافية، تكون دعامة لما أحدثته من وعي سياسي واجتماعي.

وبعد.. فالجزيرة سواء اتفقنا معها أو اختلفنا فهي إمبراطورية إعلامية، فاق تأثيرها وفاعليتها دولاً ومنظمات وهيئات وزعماء وحكام، يُحسب لها ألف حساب، ويُخشى منها كقوة لها أسلحتها وجيوشها وخططها التي لا يتجاهلها عاقل.

تحية لشبكة الجزيرة، التي أخرجتنا من أنفاق السلطة ودهاليزها، وأقنعتنا بشق الأنفس أنَّ ثمة شمس تُشرق على الأرض!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.