شعار قسم مدونات

يحدثونك عن النموذج

blogs - islamic
تحدث رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان مع الإعلامي علي الظفيري عبر برنامج المقابلة عن خطاب ألقاه حول رؤيته للعلمانية في واقعة محددة المكان والشخوص. وبدا واضحا عدم قبول المخاطبين في تلك الواقعة لتلك الرؤية، وهذه الحالة من عدم التقبل هي ما يقودني للسبح الذي أسبح فيه الآن..

إن الحالة اعلاه تعكس إشكالية معرفية عميقة في علاقتنا مع كثير من النماذج التي نتعامل معها، بل وورطة حقيقية في التفاعل معها..

فبتجاوزنا الواقعة محل الشاهد، أن حديث النماذج دليل على الوعي الفكري ومجاراة الواقع، كما يجري تسويق كثير من النماذج كمثال على التجارب الناجحة إسلاميا، وهذا الحديث عن النماذج يتضمن إشكالا في غاية الخطورة، وهو افتقاد القدرة على تحرير النموذج، والمضي فكريا نحو مقدماته ومقولاته ومستتبعات تلك المقولات.

كلما كان النموذج قصيا كانت المعرفة متعذرة، فنختزل ماليزيا شرقا في مهاتير والبوسنة غربا في بيجوفتش.

وأصل معظم هذه الإشكالات هو افتراض جمود النموذج وانفصاله عن حراك التاريخ والأفراد المدرجين في التجربة بحكم الواقع، لا بحكم قيامنا بالنمذجة وانتقائنا لعناصرها.

وذلك مبني أصلا على أن النمذجة عملية إدراكية لا ينفك عنها عقل بشري سوي، فالعقل يحيل على تلك العملية أحماله الثقيلة من المعلومات والأفكار، حيث ينتقي الدارس مكونات النموذج بنفسه، ويدخل فيه ما شاء من حصيلة ما لديه من معلومات وتجارب، ويستبعد منها ما يشاء. ينظمها بطريقته الخاصة، ويرتبها سببا ونتيجة، ومقدمات ومبررات، ودفاعات ومزاعم، ويقديمها على أنها تمثل الواقع المشار إليه.

لا يخفى والحالة هذه أن النمذجة تتأثر بالمعلومات المتاحة عن الواقع المدروس، وبالخبرات المباشرة وغير المباشرة التي يعيشها القائم بالنمذجة، فتنعكس تساؤلاته واستدعاءاته التاريخية وإشكالاته الراهنة على تلك العملية، عدا عن تأثير الموقف المؤيد أو الرافض لمعطيات ذلك الواقع.

كل هذا يظهر في صورة علاقات معرفية يقيمها القارئ للواقع ليجري النمذجة. لتقود إما لفرض سلطة معرفية تبتغي الهيمنة على أطراف النموذج، وتصوغه النموذج تبعا لفهمها وتصوراتها، لتتبلور في صورة ادعاء الريادة والسبقية مثلا. أو تقود لأسر الواقع والنموذج لدارسه بحكم خبرته واستدعاءاته.

علاوة على ما سبق، يعود افتراض جمود النموذج تحت صورة إغراء النموذج، وهي حالة عاطفية من التعاطف أو الرفض للنموذج أو مقولاته أو مكوناته المختلفة. تتأسس هذه الحالة على فرضية جمود النموذج عند وضع ما، ويؤدي لعدم تتبع تطوراته وتفاعلاته بين مكوناته المختلفة. فيغرينا لنتعاطف حتى نصل لمثالية منفصلة عن الواقع المعاش، أو يغرينا بشيطنته في حالة الرفض.

متجاهلين عدم جمود النماذج عن الحركة إن كان قبل أو بعد الظهور، فنحن من صنع النموذج، وعلينا متابعة مكوناته.

غير أن محدثيك عن النماذج، يحدثونك عن النموذج كأنه معمم مفصول عن حركة التاريخ وسياق التفاعلات الفكرية والثقافية التي نتجت فيها المقولات المؤسسة والممارسات الرئيسية لأجزاء النموذج المختلفة. ليتحرك إغراء النموذج، وتتحرك العلاقات السلطوية أو النابذة للنموذج، فتقود لاستحضار المقولات أو التفاعلات وما يقابلها لدينا، وتحرك دعاوى السبق أو الرفض بناء على المقارنة المتعجلة، أو حتى الوقوع في أسر النموذج بناء على إحباطات الواقع وحسب.

هذه الممارسات تظهر جليا عند حديثنا عن النموذج أو التجربة الماليزية أو النموذج أو التجربة التركية، فنحن نتناول الحالتين في سياقات محددة وضعناها نحن، وفسرناها نحن، ولدينا أدلتنا على صحة ما نقوله، بالمقولات الرسمية أو المقولات الضمنية.

بل إننا نقوم في كثير من الأحوال بملء الفراغات الذهنية بأفكار متنوعة نستحضرها مما يفترض أنه المحمول المشترك بيننا وبين الداخلين في سياق النموذج، متغافلين عن الاختلاف في السياق المعرفي والتاريخي بيننا وبينهم.

لكن العلاقات الحقيقية بين تلك المكونات تبقى محتجبة خلف عوامل اللغة وتراكمات التاريخ، ومعرفتنا بمقولاتها التي تتبناها أو التي تعتبرها خارجة عنها لانحيازنا لتصور مسبق كإسلامية النموذج مثلا، والخلط بين الأمرين سيقود لنتائج مسيئة لمن يمارسه.

أما مرحلة وصف النموذج، فهي المرحلة التي تتوج النجاح أو الفشل في صناعة النموذج، فلغتنا العاطفية أو العلمية هي التي تسمح للمتلقين بالإحاطة علما، وللناقل أن يكون أمينا مع نفسه ومع الآخرين، وأن يؤسس للعمليات المعرفية اللاحقة من تفسير وتنبؤ وتحكم لاحقة تحيط بالنموذج معرفيا.

يتكرس ما ذكرته آنفا في حالة النماذج التي نمت في عزلة كاملة عنا، وتأخر تعرفنا عليها، كما تشوهت معرفتنا بها بحكم رغبتنا في التعاطف معها تحت شعار كونها إسلامية.

فوق هذا، فإننا نعرف من النماذج رموزها، برغم أن هذه الشخصيات نفسها كانت تعتبر نفسها جزءا من مؤسسة، ورؤيتنا لتلك الشخصيات جامدة قاصرة تقف عند حدود المنجز لا الإشكال، والفعل لا الفكر، وتحولهم لملهمين أكثر من كونهم فاعلين في إطار عام.

وكلما كان النموذج قصيا كانت المعرفة متعذرة، فنختزل ماليزيا شرقا في مهاتير والبوسنة غربا في بيجوفتش أما تركيا فالوضع أحسن حالا، فنحن نعرف أربكان وإردوغان وغولن، ونفهم التنوع بينهم.

وحتى هؤلاء المشاهير، فلدينا معهم معضلة، فنحن ننتظر المصائب لتحل على رؤوسهم لنعرفهم، كأن آذاننا لا يبلغها إلا صراخ من يواجهون الإخفاقات والمصاعب، وليس حديث المفكرين، فلم نعرف بيغوفتش إلا عند مأساة البوسنة، ولم نسمع بإردوغان إلا عند سجنه، وكان أربكان أحسن حظا فعرفناه عند توليه الحكومة، وتابعنا الانقلاب الناعم عليه لاحقا، ولكن الأخطر أن مهاتير لم يظهر بصورة واضحة إلا منتصف التسعينات عندما اشتعلت الأزمة الأسيوية.

المفاهيم تختلف باختلاف التفسيرات المتبناة عنها، وربما كان التفسير المتبنى في وسط ما غير ذلك الرائج في آخر.

في المقابل، لا نعرف تاريخ البوسنة، ولا نعرف تركيا بعد سقوط الخلافة إلا بلعننا أتاتورك وحسب، أما عصمت إينونو ومن بعده، والتحولات التي مر بها المجتمع، وأنماط التدين والتفكير الشائعة، والعلاقات القائمة بين النخب في النظام السياسي التركي، ومفهوم العلمانية هناك، فيعنينا وحسب حربهم على المظاهر الدينية كالحجاب والصلاة وما شابه، وتأخرت معرفتنا –ومعرفتي شخصيا- بما فعله تورغوت أوزال حين أقام احتفالات المولد النبوي في القصر الجمهوري، إذن لدينا مشكلة معرفية، وعدم قدرة على تصور النموذج بشكل صحيح.

ولأننا نقف عند الشخصيات، وليس عند الأفكار، ولأننا نجمد النماذج ونعزلها عن إطارها، غابت البوسنة بعد بيغوفتش وماليزيا لا تزال مرتبطة بمهاتير الذي غادر السلطة منذ وقت ليس بالقصير.

إن ثقافة المطّلعين على النماذج المختلفة تحتاج ضبطا للرؤى، وتصورا سليما للوقائع، تمهيدا لاكتشاف الفوارق، بدل الوقوع في التعميمات الخاطئة لنماذج محددة، سرعان ما سيثبت أنها لا تصلح إلا لمجتمعاتها، وأن الاسترشاد بها، يقتضي المزيد من التثبت والتريث قبل المحاكمة والحكم والنقل.

في هذا السياق لن يكون كافيا تفكيك النموذج، بل ينبغي الإحالة على المعلومات الأولية المكونة للمعرفة بالظرف والحالة وتطورها والعوامل المساهمة فيها، وترك الاستدعاءات جانبا لتجلية الصورة كاملة.

فالمفاهيم تختلف باختلاف التفسيرات المتبناة عنها، وربما كان التفسير المتبنى في وسط ما غير ذلك الرائج في آخر، كما أن النمذجة بقصد التعبير عن مشاكلنا عبر هذه النماذج لن تقود إلا لمزيد من الإحباطات تجاه الذات والتعظيم المفرط للآخر.

علاوة على أن قراءة الذات في سياق النماذج المقدمة ستقود حتما لمشاكل جديدة، وجدية، حينها يصبح النموذج والتجربة الناجحة عبئا معرفيا وعمليا يصعب التخلص منه ومن آثاره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.