شعار قسم مدونات

مستشفيات مصر.. تذكرة للموت

blogs-hospital

وجوه شاحبة وعيون زائغة، وأفواه يتمتم أصحابها بـ" اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه" وسط صيحات توسلاتهم واستغاثاتهم المستمرة، وأنّاتِهم المُدوية، يتكئون على عِصِيِّ هشة من الأمل في رحمة وطنهم، على أرصفة المستشفيات الحكومية لتنتفض أجسادهم المُترنِحة، وتعلو صرخات حناجر ذويهم المُتقطعة.

وتتصارع دقاتُ قلوبهم المُرتجفة أيها يصرخ بصوتٍ أعلى، وهم يحاولون دخول المستشفى والحصول على سرير لمريضهم الذي ذاق المُر والعلقم، ليمرون بعد هذا العذاب برحلة موت بطيئة تبدأ من بلاط متآكل يفترشه البعض كأسِرة للموت المُقّنع، وإهمال إلى حد الإذلال.

يتيه أهل المريض في دروب الوطن بين رحى انعدام الضمير وفُقدان أدنى صور الرحمة، والشعور بالحرمان والعجز والإذلال، فلا قوة ولا حيلة لهم في وطنهم.

رحلة موت يعيشها المريض وذويه تأكلهم بنهم، كتيارِ جامح يزيل فُتات أمال الرحمة والشفاء العالقة بأرواحهم، مغلوبون على أمرهم  يخيم عليهم الاستسلام المصحوب بصرخات عقولهم المُتلاطمة، ليعبرون عنها بهزات رؤوسهم المتواصلة، في انتظار وقوع لحظات الموت، تلك اللحظات التي تترك إرثاً منحوتاً من الألم الدفين والمهانة في قلوبهم، وتهاجم الأخضر المتبقي داخل أرواحهم.

فالمستشفيات الحكومية المصرية، ما هي إلا بوابات لمزيد من الألم والعذاب، وتذكرة عبور إلى الموت، فالمواطن المصري لا يخشى الموت على فراشه في البيت وسط توحش أنياب ومخالب المرض، بقدر ما يخشى دخول المستشفيات، واللجوء إلى الوقوف على بابها يوماً، يفضل الموت وسط أهله على التواجد ساعة في مستشفيات تخلو من أدنى درجات الرحمة والإنسانية ومراعاة الآدمية.

إنها ليست أزمة ارتفاع سعر الدولار وتعويم الجنيه المصري فحسب، بل فاجعة وجريمة كبرى تُمارس في حق أدمية المواطن المصري منذ سنوات طويلة، فنحن اعتدنا منذ زمنٍ على سماع أخبار تأسف وتبكي من أجلِها الضمائر الحية، وتُدمي القلوب الرحيمة، عن مستشفيات تُغلق بواباتها الحديدية بصريرها المُوحِش في وجوه المرضى الذين نال الشيب من قلوبهم قبل رؤوسهم، بحجة أنه لا يوجد فِراشاً واحداً خالياً لاستقبال مريضٍ جديد، وأخرى تشترط دفع مبالغ مالية ضخمة من أجل الموافقة على إنقاذ حياة المريض، حتى ولو كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.

 يتيه أهل المريض في دروب الوطن بين رحى انعدام الضمير وفُقدان أدنى صور الرحمة، والشعور بالحرمان والعجز والإذلال، فلا قوة ولا حيلة لهم في وطنهم، ليرفعون أكُفَ الضراعة إلى السماء داعين الله عز وجل أن يتولاهم بواسع رحمته وألطافه الخفية.

أما عن المستشفيات الخاصة فشبح الإهمال يلاحق المرضى داخل أروقتها بضراوة أيضاً، فكم من مريض توفي نتيجة الإهمال، وتلوث أدوات الجراحة، رغم أن دخول مثل هذه المستشفيات يتكلف عشرات الآلاف من الجنيهات، ففزاعة الإهمال تطارد الغني والفقير على حدٍ سواء بسبب غياب القانون الذي يجب أن يدُق رقاب المجرمين، ممن سولت لهم أنفسهم المتاجرة بأرواح المرضى، دون أن يرِف لهم جفن، متناسين القسم الذي رددوه في بداية حياتهم المهنية.

ولكن الفاجعة الأكبر هي نقص الكثير من المستلزمات الطبية في الكثير من المستشفيات المصرية، كفلاتر ومُرشحات الغسيل الكُلوي، والتي قد ينتج عن نقصها كارثة وفاة الكثير من المرضى، إذا لم يغسل الكُلى مرتين أسبوعياً من خلالها.

إلى جانب نقص الكثير من الأدوية والعقاقير الطبية الحيوية المُعالجة للأورام وأمراض الكبد والكُلى، ونقصٍ حاد في المحاليل الطبية، والأخطر من ذلك إلغاء العديد من العمليات الجراحية الحرجة، بسبب نقص الكثير من المستلزمات الطبية الهامة والخطيرة، والتي تحتاجها جراحات القلب الحرجة مثل الرئات الصناعية، والخيوط الجراحية والقساطر الطبية، والصمامات، والوصلات الشُريانية، وكذلك المواد اللازمة لتخدير المرضى لدخولهم إلى غرف العمليات.

فالواجب الوطني والإنساني يُحتم على أجهزة الدولة بِرُمتِها وخاصة وزارتي الصحة والمالية والبنك المركزي توفير مخصصات مالية من العملة الصعبة لشراء الأدوية باعتبارها قضية أمن قومي، وأدنى صور مراعاة الآدمية المصرية، خاصة أن 98 في المائة من مستلزمات الجراحة مستوردة من الخارج، وتحتاج للعملة الصعبة لاستيرادها، والوصول إلى اتفاق مع الشركات الوطنية لصناعة الأدوية، لمنع التلاعب في سوق الدواء.

وذلك التلاعب الذي أدى للوضع الكارثي الذي نمر به الآن، والتلاعب بأرواح البشر من أجل الحصول على مكاسب مالية، ستظل عالقة بأعناقهم كالأغلال إلى يوم الدين، خاصة أن ملامح هذه الأزمة اتضحت منذ ثلاثة شهور، إلا أن وزارة الصحة لم تُحرك ساكناً، كعادة كل أجهزة الدولة التي تتحرك كالسلحفاة العليلة المقيدة بحبال الفساد بعد وقوع الكارثة وفقدان الكثير من الضحايا.

ففي الوقت الذي يجب أن تكون فيه صحة المواطن المصري من أولويات النظام والحكومة، وأهم محاور وركائز الخطط التنموية المستقبلية، تقف الدولة عاجزة عن تقديم أي حلول جذرية للكثير من المشاكل الصحية المتفاقمة، بل وتستمر في سياستها الفاشلة ليخرج علينا وزير الصحة المصري بتصريحات من أجل وأد الكارثة وتجميل أركانها بمساحيق الكذب والخداع، والوعود الزائفة، وإنكار الكثير من الحقائق المُرة، قائلاً أن ما يُتداول على ساحة الأحداث من استغاثات وتوسلات المرضى ما هو إلا تهويل للأحداث وأن الكثير من الأنباء عارية من الصحة.

وفيما يخص مستوى الخدمة الصحية في مصر تحدث قائلاً "أن مصر تقود المنظومة الصحية في المنطقة العربية والإفريقية"!!، مستطرداً " إحنا مش وحشين والدول العربية بتاخد الطبيب المصري"، وعن تدني أجور الأطباء قال "أنا مش مسئول عن أجور الأطباء" ويضيف أنه خاطب رئيس الوزراء وزارة المالية أكثر من مرة من أجل رفع بدل العدوى لكل طبيب إلى 250 جنيه، ولكن المالية ردت بالرفض".

أود أن أقول لسيادته، إن الصحة في مصر ما هي إلا أصوات نحيب وعويل، وتأوهات للمرضى حتى الرمق الأخير، والمستشفيات الحكومية ما هي إلا أزِقة خَرِبة مُوحِشة، تنبعث منها رائحة ثلاجات الموتى المُتراصة، وغرف العناية والرعاية المركزة، ما هي إلا توابيت للموتى، يأكل الإهمال القاتل في أركانها المُوحِشة، وجدرانها الباردة، يستقبلون فيها المريض ويتعاملوا معه على أنه جثة هامدة

 

الصحة في مصر ما هي إلا متاجرة بأرواح البشر بشتى الوسائل المفزعة والرخيصة، وحديث عن هوامش الأرباح من بيع الدواء، ونفوس شهيقها وزفيرها ملطخ برائحة دماء مرضى مصر.

فيضعوا المريض الذي يتحرك حركات لا إرادية بسبب نزيف في المخ على فِراشٍ بدون حاجز، ليسقط وترتطم رأسه المنهكة على الأرض، لينازع ويئن في صمت إلى أن تكتشف إحدى الممرضات الأمر بالصدفة، ليكون الحل الوحيد لديهم أن يقوموا بربط ذراعه المُتهالِك في مقبض دولاب الحائط، يضعون المريض يلفظ أنفاسه الأخيرة ببطء تحت عنوان "إحنا عملنا اللي علينا والباقي على الحانوتي".

الصحة في مصر ما هي إلا متاجرة بأرواح البشر بشتى الوسائل المفزعة والرخيصة، وحديث عن هوامش الأرباح من بيع الدواء، ونفوس شهيقها وزفيرها ملطخ برائحة دماء مرضى مصر، الذين وصلوا إلى درجة كبيرة من الشعور بالعجز واليأس ليقول أحدهم عبر إحدى القنوات الفضائية "اخبرونا بالحقيقة لكي نتسول على أبواب الجوامع من أجل الحصول على سعر العلاج، بدلاً من أن ننتظر الموت الذي يلتهم أجسادنا دون رحمة".

ارحموا أرواحا تئن وتصرخ وتموت ببطء، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم تشهد علينا كل بقاع الأرض بما كسبت نفوسنا ورقابنا. قال الله تعالى
"حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.