شعار قسم مدونات

طلب الشعب التغيير.. فغير الشعب

blogs - revolution

ِمن المحزن والعجيب أن يستخف بعض الحكام بشعوبهم ويكون ردهم على متطلبات شعوبهم بالإصلاح من خلال تغير هذه الشعوب، بدل تغيير السياسات المجحفة لهذا الحاكم أو ذاك.

 

ما سأقوله هنا ليس قصة افتراضية ولا هي من نسج الخيال، بل هي قصة تاريخية حقيقية حصلت على أرض الأندلس وفي فترة حكم الأمير الأموي الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الأول -الداخل- (توفي عام 822م) والذي لُقب بالربضي من باب الاستهزاء والازدراء.

 

فقد عُرف عن هذا الأمير طيشه واستهتاره بأمور الرعاية، مع ذلك، كان ذكياً محنكاً في معالجة الثورات التي قامت في فترة حكمة من بعض عناصر الطبقات الاجتماعية بطريقة لا يتصورها عاقل، دون أن يبالي بالنتائج أو العواقب. ويبدو أنه لم يتلق التربية المناسبة من والده الأمير هشام، والذي أطلق عليه لقب الرضا لكونه رجلاً عاقلاً متدنياً ومتسامحاً حتى مع أعدائه، كما أنه كان يهتم بأمر الرعية ويسعى لمصلحتها على شتى الأصعدة.

 

لكن الأمير الحكم انتهج سياسة مغايرة كانت قائمة على تقديم مصلحة الفرد الحاكم على مصلحة الدولة والشعب. فقد واجه هذا الأمير مجوعة من الثورات من طبقة المُوَلَدون، وهي طبقة اجتماعية ظهرت بشكل واسع في الأندلس وكانت عبارة عن الأبناء والبنات الذين أُنجبوا من تزاوج المسلمين الفاتحين للأندلس من نساء إسبانيات. وقد شكلت هذه الطبقة ثِقلاً كبيراً في المجتمع الأندلسي لكثرة أعداد أفرادها. مع ذلك، فقد حُرم أفرادها من المناصب العليا في الدولة أو الجيش وغيرها من الوظائف، وذلك لأن الدول الأموية كانت تنتهج سياسة تعين العرب فقط في الوظائف الحكومية وقيادات الجيش.

 

عندما يستهتر الحاكم بأبناء شعبه ويستخف بهم، فلن يعز عليه قتلهم أو سجنهم وتعذيبهم كلما أطلوا برؤوسهم مطالبين بالتغيير والإصلاح

والثورة التي تهمنا هنا هي الثورة التي قام بها أهل الربض، والمقصود بالربض هو الحي أو الحارة التي كان يقيم بها أصحاب هذه الثورة. فقد كان الجو متهيئا لثورة كبيرة تعبر عن مدى امتعاض الشعب من الظلم والقهر الحاصلين لأفراد هذه الجماعة، وكانت الثورة تنظر حدثاً بسيطاً حتى تنطلق. وهو بالفعل ما حصل، فقد وقع جدالٌ بين أحد أفراد الشرطة وبين حدادٍ في منطقة الربض، وتتطور هذا الجدال إلى أن انتهى بمقتل الحداد.

 

على إثر ذلك، خرج سكان الربض من فقهاء وعلماء وحرفيين وغيرهم في ثورة عارمة مطالبين بالتغيير، ومصممين على عدم العودة لبيوتهم إلا إذا تحققت مطالبهم بالإصلاح. وفي محاولة من الثوار لقطع الجسر الُمقام على النهر (الوادي الكبير) والواصل بين منطقتهم وبين مراكز الحُكم في قرطبة، أمر الأمير الحكم بن هشام جنده بالالتفاف على الثوار من الخلف والشروع في قتلهم. وقد ترتب على ذلك قتل المئات منهم إضافة إلى قفز الألوف في النهر هرباً من المذبحة، ومن ثم الهرب إلى المغرب والإسكندرية في مصر.

 

ولم يتوقف الحكم في إجراءاته، بل أمر بإخراج من تبقى من السكان وطردهم إلى المغرب. ثم أكمل معالجته لهذه الثورة عندما أمر جنده بهدم البيوت في منطقة الربض وتسويتها بالأرض ومن ثم زراعة المنطقة بأكملها بالأشجار حتى لا تعود صالحة للبناء والسكنى. لقد نجح الحكم بإسكات هذه الثورة، وأوجد رهبة عامة في نفوس المواطنين الذين شعروا بأن أي محاولة لطلب الإصلاح والتغيير سيترتب عليها مصيرُ كمصير أهل الربض.

 

وهذه في الحقيقة سياسة الظلمة والمستبدين في كل عصر وفي كل زمان، فالحاكم عندما يستهتر بأبناء شعبه ويستخف بهم، فلن يعز عليه قتلهم أو سجنهم وتعذيبهم كلما أطلوا برؤوسهم مطالبين بالتغيير والإصلاح. فالحكم الربضي وجد أان أفضل طريقة للاستجابة إلى طلب الشعب في التغيير هي تغيير الشعب نفسه، وبذلك لن يكون هناك من يطلب بالتغيير لانتفاء أصحاب الطلب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.