شعار قسم مدونات

صناعة التغيير.. عندما تكون ثورة (3)

BLOGS-ثورة

إن حل أي مشكلة يبدأ بالاعتراف بها كما في المقولة الرائجة، وإذا لم نعي أننا في مشكلة حقيقة، ونتوقف عن التغني بأمجاد آنية وانتصارات جوفاء على جبهات مليئة بالهزائم السابقة نتعاطها كمخدرات شديدة التأثير كما أمجاد الماضي السحيق، فإن أمراضنا ومشكلاتنا ستفتك بنا ونحن نعيش سُكرنا المعتاد والمجتر منذ آلاف السنين بمعنويات مرتفعة جداً.
 

منذ سنتين على الأقل لم نحقق أي نصر حقيقي ولو حتى بشكل جزئي، وكل ما فعلناه هو نضال المدافعة فقط، في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية و..، ليس تقليلاً من الجهد والجهاد الذي يبذل والذي يسطره أبطال أقرب إلى حكايات الأساطير.. عندما يستطيعون مواجهة العالم كله تقريباً والصمود في وجهه كأصحاب قضية عصية على الموت والاندثار، كما أنني لا أحاول أن استبدل التفاؤل باليأس، ولكنني أدرك أن الحالة النفسية وحدها لن تسير بمريض السرطان إلى الشفاء. وما نعانيه أشبه بسرطان متفشي وخطير جداً إذا ما نظرنا إلى واقعنا ببصيرة وموضوعية.
 

علينا أن نعرف ما هو التغيير الذي نريد تحقيقه لنستطيع المضي نحوه، وليس أن نستثمر الفوضى فقط لتحقيق مكاسب مشتتة على مختلف الجبهات.

أذكر في هذا المقام عبارة للسلطان الخليفة عبد الحميد الثاني في مذكراته يقول فيها "إن الحروب التي تنتهي بالنصر ترهق الأمة، مثلها في ذلك مثل الحروب التي تنتهي بالهزيمة، وأمور لفظية مثل الرفعة والمجد تظهر آثارها الجميلة على البلاد العامرة الأطراف، الآمن يومها، الآمن غدها. أمّا الجائعون العراة في الأراضي الخربة ويدعون الرفعة والمجد ويجرون خلفهما، فلن يكون هناك أمر مضحك مفجع كأمرهم".
 

رفع المعنويات أمر مطلوب ولكن مع التعرض للعلاج مهما كان قاسياً، والعلاج يحتاج إلى إرادة من المريض وخبرة من المعالج، ولا ينفع المريض أن يعالج نفسه إذا لم يكن مختصاً، وادعاؤه المعرفة والفهم والصمود والتغني بالشفاء دون دراية، سيودي به إلى شر أكبر ومضاعفات خطيرة. وربما يودي به وبمن حوله إذا كان على شكل وطن..
 

لست مُنظِّراً يحاول أن يستغل براعته في صقل الكلمات ورصفها إلى جانب بعضها البعض دون أن يقدِّم أي شيء، ولكن لا بدَّ أن نكون شجعاناً في قول الحقيقة المُرَّة حتى الآن، وهو أنَّنا لا نمتلك إلا مفاهيم أساسية نعيدها باستمرار دون أن نحاول الاستفادة منها أو نحاول تطبيقها.
 

صناعة التغيير تنطلق من رؤية التغيير في البداية، والرؤية للأسف مفقودة ومشتتة بين جهات لا تكاد تنتهي على الأرض وخارجها، علينا أن نعرف ما هو التغيير الذي نريد تحقيقه لنستطيع المضي نحوه، وليس أن نستثمر الفوضى فقط لتحقيق مكاسب مشتتة على مختلف الجبهات.
 

أن تحقق أهدافك يعني أن تفهم الواقع وتحسن التعامل معه وتحسن استغلال الفرص جيداً مع فهمٍ واضحٍ لممكِّناتك، ولا يعني أبداً أن ترسم البطولات في معارك تعرف أنَّها خاسرة على أمل أن يخلدك التاريخ كشخص ملهم أو كمجنون.. يجب علينا دائما التوقف عند حاجات الناس وتطلعاتهم وعدم المساس بها سلباً إذا أردنا صناعة تغيير حقيقية، دون أن يعني هذا التوقف عن صناعة المستقبل الذي نؤمن به ونستسلم للواقع، وإنَّما يعني أن نكون أكثر وعياً لما يحيط بنا وللأدوات التي يجب أن نستخدمها، ولحساسية العالم من حولنا.
 

إنَّ من يقاتل في سبيل نفسه قادر على التضحية أضعاف من يقاتل في سبيل الآخرين، فلا تسلب الناس شرف القتال لتحقيق أحلامهم وتختزلها في حلم واحد لا يفهمه أحد غيرك

علينا أن نتمتع بالمرونة الكافية للعمل ضمن خطوات واضحة وثابتة وقصيرة عندما يستلزم الأمر، وقفزات جنونية عندما يستلزم أيضاً، المهم أن نكون مدركين وواعين لما نفعله مهما كان منطقياً أو لا منطقياً.. أن يكون محسوباً ومدروساً بشكل كافٍ وأن تكون النتائج بالحسبان، وألَّا يكون للمفاجآت حظ جيد في توقعاتنا المستقبلية.
 

حاول أن تشارك العامة أفكارك وقيمك ولا تنفرد بها كنخبة مقيتة، حاول أن تتجه بالعامة ليقاتلوا بما يؤمنون به هم، وليس بما تؤمن به أنت … إنَّ من يقاتل في سبيل نفسه قادر على التضحية أضعاف من يقاتل في سبيل الآخرين، فلا تسلب الناس شرف القتال لتحقيق أحلامهم وتختزلها في حلم واحد لا يفهمه أحد غيرك، وتدعي أنَّك قائد استثنائي يبصر المستقبل، عندها ستكون الأعمى الوحيد الذي يحفر قبره بيديه.
 

دعِ الناس يعيشون ألق التغيير، اجعلهم جميعهم "النخبة".. أمّة نخبةٍ وشعبُ نخبةٍ، وليس أفراداً فقط، عليك أن تتعود التخلي عن الألقاب والنياشين وعبارات النصر والإطراء لصالح الجماعة إذا أردت أن تخطو للإمام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.