شعار قسم مدونات

الحرب ليست عصا الله الطويلة

blogs - sadness
بين كل أشلاء الموت لا أدري حقيقة ما كُنته، وما كنت أحمله بين أضلعي، حين قلت بملءِ فاهِ في تلك الأثناء أن الحياة عادلة! كُنت أقصد أن الله عادل، وأنه جل علاه مادام في قلبي ومعي، ومدام في قلوبنا ومعنا، ستبدو كل هذه الدماء وكل هذه الأشلاء، وكل هذه الحياة البائسة عادلةً جداً.

حين تحمل الله في قلبك معك، تغدو راضياً بصورةٍ يشمئزُ الناس منها، وبصورةٍ قد يوسوس لك الشيطان فيها بأنها استسلام وخنوع، ولكن لا، أليس الحيلة فيما لا حيلة فيه الصبر؟ لم يكن بيدي حيلةً أخرى سوى أن أرضى وألاقي حتفي، خيرٌ لي من أن أسخط وألاقي حتفي أيضًا.
 

لأنك لا تدري بأي أرضٍ تموت، ومتى على وجه التحديد، سيراودك نقاء قلبك عن نفسك، يأبى عليك أن ترحل وقد تركت قلباً وراءك متألماً.

كُنت صلبةً يا إلهي، كُنت وما أزال اسألك المزيد من عطفك، وأن تمدني بمددٍ من القوة والصبر كذاك الذي كنته وأكثر. في الحرب، تبدو الحياة عادلةً جدًا بالنسبة لي، لأنني أعلمُ أننا حقيقةً لم نُترك عبثًا هكذا وسط غابةٍ لعينةٍ من شلالات الدماء دون رقيب، وكنت أحمل الله معي في قلبي، وكانت يده الحانية تُطبطب هذا القلب وتُطمئنه على وجه الدوام.

وقد تبدو الحرب كدرس رياضيات بغيض، أو كمسألة فيزياء تستعصي على العقل، صعبةٌ لا يمكن التصالح معها ولا يمكن حلها، معنونه بعنوانٍ عهدتُ أن أكرهه "سؤال تفوق". في الحرب يغدو كل يوم بمثابة سؤال تفوق أو ذكاء كذاك الذي كانت تختم به معلمة الرياضيات حصتها المشؤومة، ثم تُنادي العشر الأوائل واحدةً تلو أخرى ومعها عصًا طويلة، تُعطيك فرصةً بائسة لتُفكر في حل العقدة ثم تُطالبك بمد يديك، وعليك أن تحتمل الألم اللعين الذي كان على الذاكرة أن تربطه للأبد بسؤال تفوق/ ذكاء رياضيٍ لعين لم تُعطى فيه عقلك فرصةً للتفكير ملياً في حله.

وكان على هذه الذاكرة أن تربط الحرب بالألم، ليس عبثًا، ولا اعتباطاً. بشكلٍ عام، نحنُ مُسيرون بالمقام الأول، ثم مخيرون بالمقام الثاني، فأنا لم أختر أن أعيش حرباً واحدة، لكنني كُنت مُسيرةً بقدر الله، ولكنني مُخيرة بين أن ألاقي حتفي راضيةً، أو أن ألاقي حتفي ساخطةً، وهنا يكمن حل سؤال التفوق في الحرب، لكن الله لا يحملُ عصاً طويلة يتعمدُ فيها أن نكره فيها الحياة أو أن ترتبط حياتنا فيها بالألم والوجع، أنا أؤمن بأن الله عادل، ورحيم، وأؤمن بأن هذه الحرب سؤال تفوق للجميع، علينا حلها كمعادلة كلٌ مع نفسه.

فقط في الحرب، ستراجع قلبك حقًا، ستُدرُك كم من أمرٍ هولت وهو ليس بمهول، وكم علقت نفسك بأمورٍ تزول، وكم من شخصٍ يعز عليك اشتقت، في الحرب فقط، سيكون قلبك أكثر اتساعاً، أكثر نقاءً، أكثر حُباً. ولأنك لا تدري بأي أرضٍ تموت، ومتى على وجه التحديد، سيراودك نقاء قلبك عن نفسك، يأبى عليك أن ترحل وقد تركت قلباً وراءك متألماً بسبب هفوة مزاجٍ منك، أو بسبب كلمةٍ خرجت خبط عشواء في وضعٍ نفسيٍ مُزرٍ لك، ستسأل الجميع أن يسامحوك، لأنك والله يعلمُكَ أكثر منهم، لم تقصد ولو للحظة أن تكون فظاً غليظ القلب.
 

في الحرب تغدو الحياةُ قصيرةً جداً حتى تؤجل كلمةً من أربعةِ حروف لن تُنقص منك شيئًا "أعتذر".

في الحرب، تغدو روحكَ أكثر خفةً وشفافية لتمتلك الشجاعة الكافية والكاملة لتخرج على الملأ تصرخ في الأرض قاطبةً أن تغفر لكَ لأنك أخيراً أدركت بأنك لا شيء سوى كائنٍ ضعيفٍ تقتله أشياءٌ من صُنع يديه، وستود لو تخرج لكل شجرٍ وحجرٍ تضمه بين ذراعيك، مُعتذراً، باكياً، طالباً السماح من كل شيءٍ كان ولم يكن لديك.
 

في حضرة الحرب، تغدو الحياة قصيرةً جداً لتكتم حُباً، أو تؤجل اعتذاراً، أو أن تحقد أو تعتب ولو قيد أُنملة على أي قلب. تغدو شفافاً وتطفو روحك في قلبك، تميلُ بك بشريتك كُل الميل لملائكيةٍ مُصفاة، تُزهرُ جنائنُ الحنون في قلبك، تمتلك الشجاعة الكافية لتوزعها على كُل من منعك كبرياءك عنه يوماً، لكل من منعتك أنانيتك وشجعك البشري عن مغفرة زلاته الطائشة، ترى أن نفحة الروح الإلهية فيك تتسعُ كأدغالٍ لا مُنتهية من الخُضرة، ترتقي، ترتقي.

في الحرب تغدو الحياةُ قصيرةً جداً حتى تؤجل كلمةً من أربعةِ حروف لن تُنقص منك شيئًا، كلمةً بسيطةً لدرجةٍ لا تستهلك فيها طاقتك، ولا تتعب منها عضلة لسانك، كلمةً تُراضي فيها قلوباً شتى "أعتذر".

إنني أطلبُ السماح من كل شيءٍ يتنفس في هذا الكون، إنني أعتذر عن أي شعورٍ بائس سببته له. إنني أعتذر وأعنيها. وسأظل أفعل.

في الحرب، إنني أعتذر، وإنني أُدرك جيداً أن الحرب ليست عصا الله الطويلة، لكنها كلمتهُ في الأرض، يضربُ بها من يشاء كيفما يشاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.