بعد انتهاء إجازتي الأسبوعية والتي أقضيها مع أصدقائي بلال وأنس وطه وعبد الناصر، كان علي الاستعداد للعودة إلى قضاء بيجي لأباشر عملي هناك كالعادة في فرع شركة توزيع المنتجات النفطية. حزمت أمتعتي وانطلقت صباح اليوم التالي متجهاً إلى "كراج العلاوي"، حيث تبدأ رحلتي من بغداد إلى بيجي جنوب الموصل قاطعاً مسافة تزيد على ال 223 كم، أعتدت دائماً أن أسافر بالحافلة المتجه إلى مدينة الموصل شمال العراق إلا أني هذه المرة ركبت سيارة التكسي "جالجر" لقلة المسافرين في الحافلات حيث أخذت الرحلة مني أربع ساعات كحد أقصى ماراً بنقاط التفتيش والسيطرات الامنية المنتشرة على طول الطريق.
بقيت أتطلع إلى مزارع العنب والتفاح والمساحات الخضراء المنتشرة على جانبي الطريق، بينما كانت أغاني فيروز الصباحية تُزيدُ الإحساس بالطبيعة من حولي، واصلنا المسير إلى أن وصلنا إلى منطقة الدجيل وهي منطقة ريفية تشتهر بزراعة العنب والبطيخ والنخيل تبعد عن بغداد قرابة الـ 55 كم، والدجيل منطقة فقيرة نسبياً وليس لها إلا الزراعة إذ يغلب على سكانها البساطة والقبلية نوعاً ما. وبعد مرورنا بمحاذاة مزارع الدجيل كان هناك طابور كبير من الشاحنات التي تنتظر الإذن بالمرور عبر القضاء متجهة صوب بغداد الامر الذي أبطأ الحركة المرورية بشكل كبير نتيجة الزحام الذي سببته الشاحنات.
كان أبوه ينتحب ويبكي كطفل صغير وهو يشيع ولده بنظراته المتحسرة، لم يكن بمقدوري لا أنا ولا أصدقاء خالد أن نفعل شيئاً ما، فلا نملك إلا الدعاء. نسبة نجاته ضئيلة جداً وموته مسألة وقت |
فكري كان بعيداً عن هذه الأجواء المزعجة فلقد أعادت إلي تلك البلدة ذكرى صديق. صديقي خالد الذي كان في بداية ربيعه الثامن عشر ذو قلب طيب عطوف وأدب جمٍ رفيع له بشرة حنطية، لكنها وضيئة كما أن ملامحه الدافئة تزيد من شخصيته المتزنة والجذابة فقل أن تجد مثله. في أحد أيام الشتاء الباردة مرّ خالد أمام هيكل إسمنتي متروك تبين له أنه بناءٌ لمسجد صغير، سأل القرويين عنه، فأجابوه، بأن الأشقاء الأربعة الذين كانوا يبنون المسجد استشهدوا على يد جنود أمريكيين مطلع العام 2008 بعدما قطعوا شوطا يسيرا من بناءه، فلم يكمله أحدٌ من بعدهم.
انتهز خالد الفرصة طمعاً بأن يظفر بالأجر الكبير، فقرر إكمال بناء المسجد راح خالد وأصدقائه يعملون ليل نهار وعلى مدار الاسبوع متجاهلين التزاماتهم وواجباتهم الدراسية، كان خالد يدخر جزءاً من عرق جبينه الذي يحصل عليه من عمله بباص الـ "كيا" الصغير لينفقه في شراء بعض المواد الإنشائية والكهربائية التي يحتاجها في إتمام بناء المسجد بينما يقوم رفاقه بجمع التبرعات من معارفهم و فاعلي الخير، ظل خالد طيلة ثلاثة شهور متتالية يذهب إلى المسجد الذي كان بين مزارع العنب والبطيخ من غير ملل ولا كلل غير آبه بالطرق الموحلة، قلما تتواجد في منزله حتى إنه بدء يتغيب عن إعداديته ويهمل دراسته، فيما كانت الأصفار تتولى عليه والإنذارات تصله باستمرار.
كنت كلما ذهبت لزيارة الأصدقاء في الدجيل أسأل صديقي ماهر عن خالد فيقول أنه بإمكاني أن أجده في قرية الزهيري منشغلاً بأعمال البناء والترميم في المسجد، مرت أيام العمل المتواصل ببطيء قاتل، وما إن بدأت ملامح المسجد بالبروز شيئاً فشيئاً حتى راح خالد يستشير سكان القرية عن الاسم المقترح للمسجد، فكان البعض يشير بتسميته باسم أحد أصحاب رسول الله وراح الآخر يشير عليه بأن يسميه بأحد أسماء الله الحسنى، إلا أنه استقر على تسميته بمسجد الشهداء الأربعة وفاءاً للأشقاء الذين استشهدوا على يد الأمريكيين أثناء عملهم في المسجد.
لقي الاسم الذي اختاره ترحاباً بين سكان القرية وأصبحوا يسمونه بمسجد الشهداء قبل أن يكتمل حتى، وبعد أن اكتمل رفع السقف وأكسيت جدرانه بالسيراميك و"البورك" لم يبقى من أعمال البناء إلا الكهربائيات، ومع تقدم البناء في المسجد أخبرنا خالد بأنه سيكون أول من يرفع الآذان فيه وأنه سيصلي أماماً بالقرويين هناك.
وفي أحد الأيام كان خالد يستقل دراجته النارية مسابقاً الزمن من أجل إكمال البناء حاملاً معه مفاتيحاً كهربائية، العجلة كانت تضمر شيئاً مريعاً لخالد إذ كان يسير بسرعة جنونية متجاهلاً كل النصائح بالتخفيف من السرعة، كان يريد أن يصل قبل الغروب، وصل إلى الطريق المؤدي إلى القرية، كان طريقاً ضيقاً متعرجاً مفروشاً بالحصى والطين.
تفاجئ خالد بسيارة حمل صغيرة تسير بسرعة عكس خط سيره، ظهور السيارة أرغمه على ضغط المكابح بسرعة، اختل توازن الدراجة النارية، عندها سقط من على دراجته وبفعل امتلاك جسده استمرارية على الحركة الخطية ظل متدحرجاً شاقاً طريقه نحو السيارة حتى جاءت لحظة الاصطدام المؤلم بمقدمة السيارة الحديدية، كانت إصابة خالد بليغةً جداً إذ كانت الضربة برأسه بالضبط مسببا نزيفاً حاداً في الدماغ، ونقل على أثرها إلى مستشفى ببغداد بشكل عاجل، أذكر أني أصبت بالصدمة، عندما رأيت خالد من خلف نافذة غرفة العناية المركزة، لقد كان وجهه متورماً ولونه أزرق كان لسانه منتفخاً و متدلياً من فمه والأجهزة الطبية بأسلاكها المزعجة تحيط جسده المتورم.
كان أبوه ينتحب ويبكي كطفل صغير وهو يشيع ولده بنظراته المتحسرة، لم يكن بمقدوري لا أنا ولا أصدقاء خالد أن نفعل شيئاً ما، فلا نملك إلا الدعاء. نسبة نجاته ضئيلة جداً وموته مسألة وقت: قال لنا طبيبه المختص، لم يتسلل اليأس لقلوبنا، بذل الأطباء كل ما بوسعهم من أجل إنقاذه رغم أنه كان ميتاً سرسرياً..
ثقة خالد بربه عظيمة وقلبه العامر بالأمل والإيمان دفعته بأن يكتب لنا على السبورة: إخوتي لست يائساً من رحمة الله، يوما ما سيعلو صوتي بالأذان في مسجد الشهداء الأربعة |
أفاق خالد بعد انقضاء أربعة أشهر متتالية على الحادث، لا أعرف كيف أصف منظر أبيه وأمه لحظة إفاقته، كانت دموع الفرح أكبر من أي وصف لشعور، رغم أنه فقد القدرة على النطق، وشلت أطرافه عدا يده اليمنى. قررت أنا وأصدقاء خالد أن نبدأ من حيث انتهى خالد بالمسجد، كنت أخصص يوماً وأحياناً يومين في الأسبوع، وأذهب برفقة بعض الأصدقاء من الأعظمية إلى قرية الزهيري لغرض إكمال بناء المسجد بينما أصدقاء خالد في الدجيل يعملون بشكل يومي، حتى جاء ذلك اليوم حيث أعلنا عن موعد افتتاح مسجد "الشهداء الاربعة" من دون أن نبلغ خالد الذي ظل طريح الفراش ولا يقوى على الكلام فكانت الحسرة تأكل قلوبنا لأن خالد لن يستطيع أن يؤذن فيه الأذان الاول، كما كان يقول.
كنا نتواصل مع خالد عن طريق لوح كتابة صغير يكتب لنا به ما يقول، ويتواصل به مع أهله، فهو فاقد لنعمة النطق كما أسلفت. جاء الموعد المحدد وكان وقت صلاة الجمعة، احتشد القرويون قبيل الصلاة بنصف ساعة، كنا نرى أن بعضهم قد ارتدى أحسن ثيابه المعطرة، لا يسعني أن أصف فرحتي بذلك اليوم، كانت كبيرة لدرجة أني أعجز عن وصفها. بعدها ارتقى الخطيب أبو عائشة المنبر واعظا الناس مذكراً بالله إلى أن اختتم الخطبة بالدعاء للمسلمين، كما أنه لم ينسى الدعوة لخالد بالشفاء.
عندما رجعنا من الصلاة علم خالد بأننا افتتحنا المسجد من دون أن نخبره، وتعمدنا أن لا نخبره لكيلا يحزن. ثقة خالد بربه عظيمة وقلبه العامر بالأمل والإيمان دفعته بأن يكتب لنا على السبورة: إخوتي لست يائساً من رحمة الله، يوما ما سيعلو صوتي بالأذان في مسجد الشهداء الأربعة. أخذت القلم منه وكتبت تحت ما كتب: بإذن الله يا خالد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.