شعار قسم مدونات

شمعة شعر في عشرينية الجزيرة

blogs-الجزيرة
فيما كان شهر أكتوبر من العام ١٩٩٦ يطوي أجنداته للمغادرة كان العالم العربي والغربي الناطق بلغة العرب على موعد مع ثورة إعلامية وفتح لآفاق غير محدودة من الإبداع والتوسع وطرق الأبواب والمجالات التي ظلت متمنعة في ثنايا التعتيم ومتدثرة في تلافيف التكميم بعيدا عن مجاري وتطلعات السبق الصحفي اللاهث وراء كل مستور ومحظور. تنفس الإنسان العربي نفحة من الحرية أشعرته بانقلاب جذري في مفهوم الكلمة وقيمة الصورة، وأصبح في متناوله عن قرب ما حجزته عنه الحدود المكانية والتحفظات السلطوية ذات يوم ولًى.
 

شاهدنا ما تمخض عنه القرن الفارط واستهل به هذا القرن من تطورات وسياسات كان مسرحها العالم الإسلامي الذي يراد من أرضه بحرا وبرا أن تخرج خيراتها وتقدمها هدية سائغة في حساب مصارف الحكومات الغربية، ويراد من حكامه أن يقدموا بين المأمورية والأخرى أقوى الدلائل وأنصع البراهين على ولائهم المطلق لأولياء نعمتهم الغربيين -رغما عن شعوبهم- مقابل ضمانات بتثبيتهم على كراسيهم وربما توريثها من بعدهم، ويراد من شعوبه أن تظل في ذيل قائمة شعوب الأرض فكرا وتحضر وتأثيرا، والبديل الوحيد عن ذلك النهج الحاقد هو سعي حثيث لتطويع القانون الدولي وتسخيره لشن الحروب في حملة لا تبقي ولا تذر شاهدنا آثارها في العراق ثم في أفغانستان ثم في العراق مرة أخرى وفي بلدان أخرى..
 

لم تكن الثورات العربية لتقف على ساقها لولا التغطية الحية التي وفرتها شبكة الجزيرة الإعلامية خبرا وتعليقا وتحليلا واستشرافا للنتائج والمآلات

ومن كتب له أن يعايش ذلك كله سيدرك حقا أنه لولا مواكبة قناة الجزيرة لتلك الأحداث لحظيا، وتعرية تلك الممارسات الفظيعة أمام الضمير العالمي، وتسليط الضوء على المناطق المعتمة بالمؤامرات والمكائد الماكرة لكانت النتائج والآثار أفظع وأقسى مما وقع بكثير. قد كسرت قناة الجزيرة في تلك المواقف الصعبة احتكار الكلمة والصورة الذي كان عرضة لمقص صارم تمسك به أيادي أنظمة الكبت والاستبداد، ومن ورائها الأجهزة الحكومية الغربية التي تريد للإنسان العربي والمسلم أن يُخنَق بل يُدفَن دون حركة أو ضجيج.
 

كان السر في تميز القناة وخروجها عن صورة الإعلام العربي النمطية يكمن في إيمانها بالفكرة، وتوفيقها الخارق في انتقاء الكادر البشري الذي استطاع تجسيد الفكرة واقعا من خلال الالتزام، والسعي وراء الحقيقة في مجاهل إفريقيا، وصقيع أوروبا، ودهاليز السياسة في أمريكا وتحت فوهات الدبابات وجحيم الطائرات في فلسطين والعراق والمناطق الساخنة في أرجاء المعمورة.
 

لم تكن الثورات العربية لتقف على ساقها رغم الحماس الشعبي العارم والظروف المحيطة لولا التغطية الحية التي وفرتها شبكة الجزيرة الإعلامية خبرا وتعليقا وتحليلا واستشرافا للنتائج والمآلات، مما ولّد هزات عنيفة حركت الفكر العربي المعاصر وأسست لبنيات فكرية وسياسية لا محالة ستكون لها آثارها في المستقبل. لا يقف سقف طموح الشبكة الرائدة عند مخاطبة العرب فقط، ولكنها استطاعت في مسيرة تطورها تخطي حواجز اللغة فأوصلت الفكرة والمعلومة ساخنة للمتلقي بأهم اللغات المنطوقة اليوم.
 

ولقد اعتمدت إضافة إلى اهتمامها الإخباري التقليدي اقتحام أهم المجالات التي يفكر فيها إنسان اليوم في الثقافة والرياضة.. وفي الاقتصاد والأعمال.. وفي الفن والتوثيق التاريخي.. وفي الدراسات الإعلامية والبحثية المتنوعة.. مستخدمة ما توفره تقنيات العصر من إمكانيات البث الفضائي والإلكتروني السيار.
 

كلها مميزات بوأت الشبكة مكانة متقدمة في صفوف المؤسسات الإعلامية العالمية وجعلت منها ماركة للإبداع والتألق. الجزيرة اليوم وهي تحتفل بإطفاء شمعتها العشرين تستحق علينا أن نسهم بإيقاد واحدة من هذه الشموع شعراً:
عشرين حولاً.. ظلّ طرفُكِ ساهراً **** متقصّياً، يقِظاً "مع الإنسان"
عشرين حولاً.. تكشفينَ مخابئاً **** للكبْت.. للإقصاء.. للحرْمان
عشرين حولاً.. تحْملين بحُرقةٍ **** ألم العُروبة .. عابرَ الأزمان
عيشي بخيرٍ..أطفئي ما شئتِ من **** شمْعٍ .. ترقّيْ في علُو الشانِ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.