التدوين على قدر جمال أن تنسج الحرف تلو حرف، لتمتلئ الصفحة البيضاء، إلا أنهُ مؤلم، فهو حالة مخاضٍ دائم بلا ترقب لميعاد الولادة، فأنت لا تدري رغم ذلك متى تخرج الكلمة.
نختار ركُنًا قصيًا من الحياة، خلف شاشةٍ صغيرة نظن أننا نحيا، وأننا نترك أثرًا ما وراءنا وما نحن إلا هاربين من حقيقة الحياة. |
ولكن جرفني التيار، وعوضًا عن كتابة القصص، المقالات، وبعض الخواطر وجدتني أعمل بشكلٍ شبه يومي على كتابة التقارير السياسية، وخمد في داخلي صوتٌ ما لوقتٍ طويل.
قليلٌ ما ندرك أننا ضللنا الطريق، فذات يوم وأنا جالسةٌ خلف شاشة الحاسوب سمعتُ أصواتًا تعلو رويدًا رويدًا، ألقيتُ نظرة من أعلى فإذا ببعض الطلاب يسيرون على امتداد "شارع البلدية"، كانوا من طلاب جامعة الخرطوم يحملون ما يشبه النعش وعليه "بعض أغصان الشجر".
تساءلت عن مغزى وجودها على النعش؟ أهي الحياةُ المهدرة؟ وكانوا يهتفون منادين بحق الإنسان في الحرية، العدل، ومقتلُ طالب مقتل أُمة، دفعوا ثمنًا لذلك وقتًا أطول خلف القضبان.
ذلك هو اليوم الذي أدركتُ فيه أني حِدتُ عن مساري، فلا شيء سيُكتب عن ذلك، احتفظنا بالصور على ذاكرة الكاميرا وذاكراتنا المترفة بالوجع.
مُنذ تلك اللحظة وأنا أعيد النظر إلى الحياة بزاويةٍ أخرى، ففي ذات اليوم وأنا في الطريق إلى المنزل مررتُ ببيتٍ مبنيٍّ من القش تقيم فيه امرأةٌ وأربع بنات، هربن من الحرب في "جبال النوبة"، وعلى إثر حريقٍ نشب في منزلهن فقدن كل ما يملكن، عندما سألتها عما تحتاجهُ؛ قالت شهادات ميلاد لبناتها حتى يستطعن الالتحاق بالمدرسة، ومُشمعٌ تضعهُ على القش ليقيهم من المطر، ولمبة لتضيء المكان ليلًا.
علمتُ فيما بعد أن أصحاب البناية الفخمة المجاورة لهن رفضوا توصيل التيار الكهربائي لإضاءة "لمبة" إلا بعد دفع مبلغٍ من المال، والمرأة تعمل هي وإحدى بناتها في المنازل لأجل لقمة العيش، أتساءل حقًا من هو الجدير بإعادة استخراج شهادة ميلاد له.
أحيانًا لا شيء في هذه الأرض يوحي بالحياة، ومن بين براثين تلك الأحداث تاقت نفسي مجددًا للتدوين، وحين كتبتُ تدوينة صغيرة، قال لي أستاذي في القسم "أنت أديبة ضلت طريقها إلى صاحبة الجلالة". أجبتهُ حيثُ للحرف متنفس، لكني استدركت في داخلي من خُرم إبرة، وتساءلت عن دوري في بلاط صاحبة الجلالة، أأنا حاجبٌ هناك! أم أنني ألعب دور الوصيف، هل أنا من حرس البلاط، أم من حاشية الملك! أم أولئك الذين يعزفون ليلًا على وترٍ ما حتى يطرب صاحب الجلالة؟!
محار البحار الذي يصنع اللؤلؤ، يصنعهُ حين يقتحم جسمٌ ما غريب عالم اللؤلؤ الداخلي كأن الجراح تلدُ اللآلئ. |
نتداعى شيئًا فشيئًا تجرفنا الحياة، نغرق في ملذاتها ويصيبنا بعض ابتلائها خوفًا وفقدًا، لم تنضب جعبة الحياة من القصص التي تجاوزت الواقع إلى عالمٍ كان احتمال وجودهُ في يوم ما ضربٌ من ضروب الخيال.
وأجدني الآن أعود إلى التدوين من جديد وتستحضرُ الذاكرة وطنًا مقسمًا ومثخنًا بالجراح، أدون وقد عبر نصف أبناء الوطن هذه الأرض بلا أملٍ في الحياةِ من جديد، وآخرون شقوا عباب البحر.. غرق من غرق ونجا من نجا، حملوا جنسياتٍ أخرى، تركوا وطنًا لفظهم كما تلفظ الجيفة.
أدون وبي أملٌ أن لا يعيش الجيل القادم على هذا الوطن كمن عاش من قبلهم وقد أضناهم البحث عن وطن، عبروا فقط ليجدوا في المنفى وطنًا، وكانت حياتهم هنا محضُ أضغاث أحلام.
أدون ورغم الحزن تحضرني دومًا مقولة الكاتب أحمد بهجت من كتابه أنبياء الله، "محار البحار الذي يصنع اللؤلؤ، يصنعهُ حين يقتحم جسمٌ ما غريب عالم اللؤلؤ الداخلي كأن الجراح تلدُ اللآلئ".
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.