شعار قسم مدونات

رسالة إلى أمير السوريين عبد القادر الجزائري

blogs - abdelqader
سيدي عبد القادر.. أكتب إليك اليوم وأنا على علمٍ بولعك الشديد بكتابة الرسائل، لكن رسالتي هذه ليست كرسائلك التي كتبتها خدمةً للقضايا الإنسانية أو إرساءً للسلام العالمي، بل رسالتي اليوم هي لإرساءٌ للسلام الداخلي في نفسي بعد أن فقدته بسبب كثرة التفكير وقلة الحيلة..

نحن الآن في سنة ١٤٣٨هـ، أي بعد مرور ١٣٣ سنة على وفاتك و٥٠ سنة على نقل رفاتك إلى الجزائر..

استطعت يا سيدي عبد القادر بو علام أن تختصر بذاكرتي شعب وحضارة الجزائر بأكملها..

اليوم بينما كنت في السيارة أقلّب في قنوات الراديو بدافع الملل، تراءى لسمعي أنغامٌ أعرفها جيداً، كانت أغنية الشاب خالد ورشيد طه وفضيل "عبد القادر يا بو علام".. لقد أعادتني تلك الأنغام الجزائرية الساحرة سنواتٍ عديدة إلى الوراء، إلى الأيام التي كنت فيها طفلةً تتراقص روحها على أنغام تلك الموسيقى التي اختصرت بالنسبة لها سحر المغرب العربي بمعلوماتها البسيطة عنه..

عبد القادر يا بو علام ضاق الحال عليا
داوي حالي يا بو علام سيدي روف عليا

كان ذلك جلّ ما فهمته من الأغنية أما باقي ما تبقى فكانت طلاسم لم أجهد نفسي في فكها، ومع أني عرفت بعدها بسنوات أن الأغنية لم تكن تتحدث عنك بل عن عبد القادر الجيلاني شيخ الطريقة القادرية الذي يقال أنك قد زرت مقامه أثناء رحلتك للحج، إلا أني لازلت أرى وجهك أمامي بعينيك الشامختين ولحيتك المهيبة في كل مرة أسمع فيها الموسيقى الجزائرية أو أرى علم الجزائر أو أسمع أحدهم يتحدث باللهجة الجزائرية، فقد استطعت أن تختصر بذاكرتي شعب وحضارة الجزائر بأكملها..

أراني اليوم أجول بمحطات حياتك ومواقفها الواحدة تلو الأخرى ثم أسقطها على وضعنا الحالي وأنا أسأل نفسي هل هناك فعلا من يمكنه أن يداوي حالنا ويرأف بنا بعد أن ضاق علينا الحال يا سيدي بوعلام؟!

عن سوريا أتحدث.. بلدي وبلدك الذي قضيت فيه الثلاثة عقودٍ الأخيرة من حياتك، عن الشام التي كنت فيها الفقيه والإمام الذي تشهد بعلمه ساحات الجامع الأموي ويروي عنه أهل دمشق الأساطير في الفروسية والشهامة، عن قاسيون الذي دُفنتَ في حضنه مجاوراً بجسدك لمحي الدين بن عربي الذي طالما جاورت في حياتك فكره وتصوفه، عن أحفادك الذين تركت فيهم جزءً منك باقياً في عهدة الشام ما بقيت أنت في ذاكرة أبنائها..

بالله عليك قل لي كيف استطعت أن تختصر بشخصك ما لم تجمعه أمةٌ بأكملها، كيف استطعت أن تكون باعتراف فرنسا نفسها رجلاً عابراً للزمن ومحارباً من الطراز الذي لا يجود الزمان بمثله إلا ما ندر.. كيف استطعت أن تكون المقاتل الشرس الذي لا يشق له غبار ثم المتصوف الورع الذي قطع في سبيل الله والوطن أقاصي الأرض والبحار..

تُرى كيف استطعت توحيد صفوف القبائل الجزائرية على اختلافها وخلافها بل وتجنيدها لمحاربة الفرنسيين لمدة تزيد عن خمس عشرة سنة بينما لم نستطع نحن السوريون نبذ خلافاتنا في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه لوحدة الصف، بل ولأزيدك من الشعر بيتا، لقد فشلنا في إيجاد ما يجمّعنا والبناء عليه لكننا – والله يشهد – لم نفشل في توجيه الاتهامات لبعضنا البعض..

سيدي عبد القادر ما السبيل للحفاظ على الإخلاص في زمنٍ يُخلع فيه الدين والمبادئ كما يُخلع الحذاء لتنتشر الرائحة النتنة التي تكشف عن نتانة القلوب ودناءة النفوس؟

يذكر التاريخ أنك قد قمت بإحضار قسيسٍ للأسرى الفرنسيين للإشراف على أمور دينهم بعد انتصاراتك المتكررة عليهم، كما قمت بوضع لائحةٍ في معاملة الأسرى تُعتبر إلى الآن نصاً قانونياً إرساءً منك لقوله تعالى "لا إكراه في الدين"، بينما مازلنا نحن إلى الآن عاجزين عن فهم مقاصد ديننا الحنيف فنمارس باسم الدين يومياً صنوف الإكراه وتحييد العقول..

أتذْكر يوم حلت الفتنة على الشام سنة ١٨٦٠ بين الدروز والمسيحيين التي لقي على أثرها أكثر من عشرة آلاف مسيحي مصرعهم وكيف أُحرق حي باب توما عن بكرة أبيه، وكيف أن المسيحيين لم يجدوا وقتها سوى منزل الأمير عبد القادر الجزائري ليحتموا فيه، وكيف أسست جيشاً صغيراً لحماية المدنيين ومداواة جراحهم وطالبت بمفاتيح قلعة دمشق لوضعهم بداخلها، ثم كيف أضحيت بعدها أسطورةً في العالم المسيحي والمسلم معاً في سابقةٍ لشخصٍ واحدٍ استطاع حماية أمةٍ بأكملها. أما عن حالنا اليوم، فقد زُرعت يا سيدي الطائفية فينا زرعا ورويت بمياه الحقد ثم آتت أكلها قتلا وتشريدا ودمارا..

وأخيرا دعني أسألك عن الإخلاص وأنت أستاذه، ما السبيل للحفاظ على الإخلاص في زمنٍ يُخلع فيه الدين والمبادئ كما يُخلع الحذاء لتنتشر الرائحة النتنة التي تكشف عن نتانة القلوب ودناءة النفوس؟.. ما عساي أن أقول أكثر!، كفاي ما قلته وكفاك ما سمعته.. على روحك يا سيدي عبد القادر السلام.. وعلينا السلام.. إلا من رحم ربي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.