مدينة مقديشو هي العاصمة الصومالية، ولها مكانة خاصة في قلوب كل الصوماليين باستثناء مَن ينظر إليها على أنها عاصمة قبليَّة تجنِّيا عليها؛ مع كونها أرحب وأرفع من حشرها في تلك الزاوية الضيِّقة؛ فقد وصفها الرَّحالة العربي ابن بطوطة الذي زار مقديشو في القرن الرابع عشر الميلادي بأنها مدينة متناهية في الكبر؛ مادحا أهلها الأصليين بالكرم والضيافة، وبالفعل هي في صدارة المدن الصومالية المضيافة، وتتسع – بشهادة الجميع – لكل الوافدين إليها من مختلف المناطق والطبقات والمستويات الاجتماعية.
وحديثي عن مقديشو ليس عن أمجادها ومراحل تطورها وما تعاقب عليها من عهود وقوميات مختلفة، ولا عن غزاتها الجدد القادمين من مناطق البدو القاحلة؛ ممن يتغنَّون حاليا بأنهم حماة هذه المدينة ومدافعي حقوقها في مجالس الدولة.
وتفاديا عن الإطناب في الاستهلال أعود إلى سؤال العنوان، لتقديم صورة عن مدى شعور المواطن الصومالي بأمان في مقديشو؟ والإجابة عن هذا السؤال تعدَّد بتعدُّد الولاءات والانتماءات؛ ولكن الواقع يتحدَّث عن نفسه، ويثير تساؤلات عدة في ظل وجود جهود متضادة؛ إحداها تبني والأخرى تهدم قواعد الأمن في المجتمع الصومالي بمفخخات فكرية واسعة الانتشار قبل أي شيء آخر.
يشعر المواطن بعدم الاطمئنان عندما يسير بسيارته في بعض شوارع العاصمة خشية أن يتم استهدافه من قبل قوات الدولة التي هي الأخرى في حالة تأهُّب خوفا من سيارات مفخخة تستهدفها |
ومعروف أن هناك مدنا كثيرة في الصومال أكثر أمنا من العاصمة التي يُنفق على تأمينها الملايين من الدولارات، ومن ذلك مدينة بُورَما بشمال الصومال؛ حيث ترى في شوارعها مواطنين من دول غربيَّة يتجوَّلون ويتسوَّقون دون حراسة أو سيارات واقية من الرصَّاص، ولعل الجدل يطول في الأسباب والفوارق، ومدى تجاوب الشعب مع الجهات الأمنية في كل منطقة، أو بالأحرى ما يُحاك من مكائد لعاصمة الصومال من قبل المرجفين في المدينة وخارجها من سماسرة الفوضى الخلَّاقة في الصومال.
بصراحة؛ لا أحد ينكر ما تمَّ من تطورات في الجانب الأمني من تقليل أزيز الرصَّاصات العشوائية وجرائم النهب والقتل الممنهج، وما ترتَّب عن ذلك من إقبال صومالي المهجر على العاصمة وبدء المشاريع التنموية فيها، ولكن هل هذا منتهى طموحنا، وما مدى شعور المواطن العادي بالأمن في محيطة؟
وبعيدا عن الاغترار بما نراه من ترجُّل بعض المسؤولين السابقين واللاحقين في شارع مكة المكرمة -المعروف شعبيا بشارع الدولة – دعونا نفكر فيما إذا نزل أيُّ موظَّف حكومي بسيط بدون حراسة راجلا أو راكبا من تقاطع دَبْكَا إلى الشمال نحو سوق بَكَّارِي، كيف يكون حسُّه الأمني، ثمَّ ماذا لو تجاوز إلى شارع الثلاثين أو إلى شارع المصانع؟
أضف إلى ذلك إذا دخلت في فندق من الفنادق الكبيرة في مقديشو تلاحظ أن هناك تحسُّباً لأيِّ طارئ لدى كل العملاء والعاملين فيها، ورغم مرور الشخص بأكثر من نقطة تفتيش في الفندق إلا أنَّه عندما يدخل أيُّ داخل تتركَّز عليه أعين معظم المتواجدين في بهو الفندق؛ كلٌ بطريقته الخاصة، وكأن كاميرات المراقبة المثبَّتة في كل ركن لا تكفي ولا تفي بالغرض، وبالطبع فالناس معذورون بتصرفاتهم اللاشعورية، ولاسيما بعد أن تمَّ اختراق وتفجير أكثر المناطق تحصينا في المدينة.
ويشعر المواطن العادي بمثل هذه الحالة من عدم الثقة والاطمئنان عندما يسير بسيارته في بعض شوارع العاصمة خشية أن يتم استهدافه من قبل قوات الدولة التي هي الأخرى في حالة تأهُّب قصوى خوفا من سيارات مفخخة تستهدفها؛ وبالتالي صارت جميع السيارات المدنيَّة تحت مرمى نيرانها، ولنا نستخلص من ذلك شعور المواطن بالأمن الحقيقي في مقديشو.
وفق دراسة أمنية غير منشورة فإن مدينة مقديشو مقسَّمة على أساس قبليٍّ، وأن مجرد سماع اسم أيِّ حيٍّ من أحيائها يستحضر الذهن تلقائيا اسم قبيلة معينة تتنمَّر على غيرها، وذلك بحكم كون الحيَّ نقطة انطلاق ميليشياتها أثناء تحرير مقديشو من النظام العسكري عام 1991م، كما يزعمون.
ومع وجود استثناءات بسيطة في نتائج هذه الدراسة التي تقسِّم سكان الأحياء إلى أغلبية متعجرفة وأقليَّة متمسكِنة غير واثقة بنظام العدالة ولا تمثيل لها في النظام الإداري والقضائي في المنطقة التي تسكن فيها؛ وبالتالي فإن هؤلاء لا يشعرون بالأمان كما لا يَسْلمون من الابتزاز وفرض إتاوات استثنائية عليهم، ويعتقد نسبة كبيرة منهم أن شيئا ما لم يتغير بعد انتهاء عهد أمراء الحرب، وأنه كل ما في الأمر -إن صحَّ التعبير- مليشيات بأزياء عسكرية رسمية يخاف منها الناس أكثر من خوفهم من مليشيات حركة الشباب المتطرفة ؛ والتي تمارس -هي الأخرى- أساليب مختلفة لترويع الآمنين، بل تؤكد بعض الدراسات بأنها -أي الحركة- دولة داخل دولة.
أكثر ما يُخيف سكان الصفيح هي الطلقات النارية العشوائية المنبعثة من سطوح العمارات ومنازل المسؤولين التي يعتليها حرَّاس أياديهم على الزناد |
وليس خافيا على أحد كيف أن بعض الناس لا يزالون يتحاكمون إلى محاكم حركة الشباب ويجمعون لها الزكوات طوعاً أو كرهاً، والحديث يطول عن ذلك إذا تطرَّقنا لأنواع الابتزاز وأسباب تجاوب بعض رجال الأعمال للأوامر خوفا على أنفسهم ومصالحهم في المناطق التي تسيطر عليها حركة الشباب في جنوب ووسط الصومال.
والآن تعالوا نلقي نظرة على سكان الصفيح -وما أكثرهم- ويُصاب أحدنا بالدهشة عندما يعلم أن ما يُخيفهم أكثر هي الطلقات النارية العشوائية المنبعثة من سطوح العمارات ومنازل المسؤولين التي يعتليها حرَّاس أياديهم على الزناد، وعند حدوث أي اشتباك أو تفجير يضطَّر أهالي الصَّفيح إلى الفرار نحو المباني المشيَّدة بالأسمنت المسلَّح، ويبقون هناك حتى تضع الحرب أوزارها وفق تأكيدات مَن عايشوا هذه التجربة المريرة أكثر من مرة؛ ممن ألجأتهم الظروف إلى الاختباء ساعات طويلة في أحد المباني القريبة لأحد فنادق مقديشو.
وأخيرا.. أقول لمن خوَّفني وحذَّرني من الكتابة عن الأمن على أساس أنه خط أحمر يتلقَّى المقتربون إليه تحذيرات وتهديدات من جميع الجهات: إن هناك أكثر من طريقة يمكن الحديث عن القضية الأمنية في الصومال، وليس بالضرورة أن يأتي التقيِّيم الأمني دائما من المختصين.
ومن الخطـأ أن يخلط بعض المتصفحين بين الكتابة عن الأمن كحاجة وطنية وبين تناول مكونات الجهاز الأمني وتشكيلاته ومقارِّه مما هو ممنوع من النَّشر، فأنا لست مع هذا الذي لا يفرِّق بين هذا وذاك، ولكني مع ذلك الصحفي المتلعثم من الخوف وهو على الهواء مباشرة عندما يُطلب منه التعليق على شيء له علاقة بحركة الشباب المجاهدين ؟ فهذا الأخير يغامر بنفسه نيابة عن كمٍّ هائل من الكوادر والكفاءات المغيَّبة؛ ممن اختاروا الالتزام بالصمت حتى تهدأ الفوضى الأمنية وتخفّ حدة الاغتيالات ضد المثقَّفين وأصحاب الأقلام الحرَّة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.