في أثناء الحروب الإسرائيلية على العالم العربي بعد قيام كيان الدولة الإسرائيلية على التراب الفلسطيني، اتخذ الإعلام الخارجي الموجه صورة مغايرة تماماً لما كان عليه الحال قبل ذلك، فبدل الاعتماد على أصحاب النفوذ والإعلام المدفوع ووسائل الدعاية والإعلان التقليدية، بادرت المؤسسة العسكرية الحاكمة في إسرائيل لصناعة لجان تخصصية تشرف وتتابع العمل الإعلامي الخارجي بشكل منهجي مرتب، بما يعرف باسم الإعلام الاستباقي، لتمهد الأرضية أمام كل التحركات التي تقوم بها على الأراضي الفلسطينية والعربية في نظر الغربيين من خلال إعلام يتم ضخه بشكل مكرر وموجه في أوقات معينة ليجعل الحقيقة تستحيل إلى وهم كامل، وليزيف كل شيء وفق التوجهات المطلوبة في الزمان والمكان المطلوبين.
هناك حملة منظمة تحاول أن تزرع في عقول ونفوس الإنسان الغربي والمجتمعات نظرية أن العربي متخلف مناهض للمرأة وغبي وقذر ومسلح، وبالتالي فوجوده على وجه الأرض يمثل صورة غير سوية |
شدني جداً ما جرى إبّان الحربين الإسرائيليتين العدوانيتين الأخيرتين على قطاع غزة المحاصر، فقد أسعفني الوقت لمتابعة بعض وسائل الإعلام ومجالات الدعاية في أوروبا تحديداً، وقد استغربت -وأنا أزعم أني من المتابعين لهذا الشأن- من شكل الدعاية الجديدة الموجودة هناك في ظل الأزمات شكلاً ومضموناً.
فبالرغم من كل المجازر والصور المأساوية التي نقلتها كل وسائل الإعلام العالمية، وحالات القتل والتدمير الممنهج ضد المدنيين الفلسطينيين هناك، إلا أن شكل الدعاية الإسرائيلية في كثير من وسائل الإعلام قد أخذ شكلا جديداً بعيداً عن التأثير الإعلامي الإخباري الصرف والواضح، أو بث الأخبار المطلوب بثها إسرائيلياً على المستوى الأوروبي، ولكن الدعاية قد اتخذت شكلاً ومجالاً آخر بعيد كل البعد عن ذلك، لتدخل من عالم السينما الغربية ذاتها في بعد الأفلام السينمائية المحلية التي تبث باللغات الأوروبية، والتي تظهر العرب عموماً بأنهم أناس غوغاء متخلفين لا إنسانيين، يشكلون عبئاً على الإنسانية بغبائهم وتخلفهم وقذارة بيوتهم وملابسهم ونحوها.
في البداية قد تظن أنك أمام عمل واحد أو عمل فردي ما، ولكنك بمتابعتك لموجة التأثير عبر أكثر من مؤسسة إعلامية وأكثر من لغة خطاب، تلمس أن هناك حملة رسمية منظمة تحاول أن تزرع في عقول ونفوس الإنسان الغربي والمجتمعات وصناع القرار على حد سواء نظرية أن العربي متخلف مناهض للمرأة وغبي وقذر ومسلح، وبالتالي فوجوده على وجه الأرض يمثل صورة غير سوية يجب التعامل معها بأي شكل لتصويب هذا الوضع غير السليم.
من بعيد قد تظن أن الأمر لا علاقة له بالعدوان القائم على الأرض، ولكن فعلياً، يأخذ هذا الشكل من الدعاية في العالم الغربي المغيّب عن الحقائق صورة التأثير غير الواعي، والتنميط الفكري التراكمي، لتصل إلى نتيجة مفادها أن كثيراً من العامة في الغرب باتوا مقتنعين أن الاحتلال الإسرائيلي لا يمثل إلا بعض الصورة الواجبة لما يجب أن يكون عليه الحال في كل المشرق، وبذلك تسلم الجبهة الإسرائيلية من الانتقاد اللاذع -على أقل تقدير- ويبدأ الغرب بتقبل فكرة العدوان على أنه يتم في بقعة جغرافية صغيرة للتعامل مع فئة صغيرة بعيداً عن كل المعايير الأخلاقية والإنسانية التي يتغنى بها الغرب ويعتبرها سبب تميزه وقيامه.
وعند الحديث عن دعاية موجهة ذكية، فنحن نتحدث عن تعانق أكثر من لون منها، ففي ألمانيا على سبيل المثال، وهي الدولة المؤثرة فعلياً في الاتحاد الأوروبي وسياساته الخارجية، كان للسينما المحلية باللغة الألمانية حضور لافت حتى في بعض القنوات الفضائية الألمانية غير المتابعة جماهيرياً، إضافة إلى الجهد المبذول في الصحافة والقنوات الفضائية والمجلات، وحتى في برامج الصباح الترفيهية، وعند إضافة عنصر المراسلات الخاصة للوزراء والمسؤولين وللكتاب والإعلاميين والروائيين ونحوهم يمكن لنا أن نتحدث عن تأثير موجه لشرائح صناعة القرار في هذه الدولة، وعليها يمكن القياس بعد ذلك في الدول الغربية الأخرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.