شعار قسم مدونات

اللغة العربية وقطة شرودينجر

blog اللغة

يرى عالم "الأناسة" الفرنسي كلود ليفي شتراوس بأن اللغة هي نتاج المجموعة ولا توجد بدونها، ويجب بناء على ذلك أن تتمدد اللغة وتتقلص بحسب حاجات المجموعة، ومدى ارتباطها وتداخلها مع مجموعات أخرى.

إذا افترضنا وجاهة هذا المنطق الأثنروبولوجي ربما يحق لنا أن نسأل: لماذا توجد كلمتان مختلفتان تماما لوصف شيء واحد؟ كيف يمكن للغةٍ تحمل في معاجمها أكثر من عشرة ملايين كلمة أن تعجز، أو تبدو عاجزة، عن استيعاب كلمات مثل: "أناسة" أو "عصرنة" أو "طراز" أو "جُزَيء" أو غيرها من الكلمات الجديدة على سمع المتلقي العربي "الأصلي"؟ كيف نستطيع دمج "الأنثروبولوجيا" في معجمنا العربي دون أن نُغضب النحاة وأهل الصرف؟

ليس من الإنصاف -على كل حال- ولا من الحقيقة اعتبار أن العربية ضعيفة مقابل لغات أخرى، أو جامدة أكثر من اللازم

قبل سنين، وقعت على ورقة بحثية تعالج ثنائية التعريب (إدخال كلمات إلى العربية عبر إيجاد صيغ صرفية مناسبة لها) والنحت (إدخال الكلمات كما هي) في اللغة العربية، وأذكر أن صاحب الورقة خلص إلى أن المنطق النحوي العربي، يرفض النحت رفضا قاطعا ويضع شروطا كثيرة للتعريب، أي أنه عمليا يكتفي بمعجمه المتشكل قبل قرون، فهل يمكننا اعتبار كلمة "أناسة" عربية؟ رغم أن صيغتها الصرفية غير منضبطة مع ما تعنيه: الأنثروبولوجيا (علم الإنسان).

بالنظر إلى أصل اللغة العربية، رغم الخلاف في ما إذا كانت مجرد لهجة سامية تطورت تدريجيا وانفصلت لتصبح لغة، أو أنها بدأت على لسان "يعرب" أو أنها بدأت مع اسماعيل ابن ابراهيم. نجد أن الخصوصية الجغرافية والاجتماعية والثقافية وحتى الاقتصادية للبيئة التي تطورت فيها العربية، جعلتها من أكثر اللغات انغلاقا عن غيرها، وانفتاحا على مصادرها الذاتية، رغم قربها المكاني من لغات أخرى اختلطت بها عمليا في مراحل زمنية مختلفة (الكلدانية، الفارسية، الآرامية، العبرية، اللاتينية وغيرها..).

لكنها لم تتأثر بها كتأثر غيرها من اللغات ببعضها، وإنما حافظت على نسبة كبيرة جدا من النقاء "الألسني" رغم كل ذلك الاختلاط. وبعد ظهور الإسلام،بدأت مرحلة مهمة من تاريخ اللغة العربية، مرحلة "التقعيد" لعلومها، وتأسيس فقهها والتأصيل لمدارسها المختلفة.

فكانت في كل بلد عربيةٌ تشبه تضاريسه وأهله ولسان ينطق بحال أصحابه، لكن ظهور الإسلام كانت له نتيجة أخرى، ألا وهي إضفاء نوع من القداسة على اللغة العربية؛ لغة القرآن، قداسة جعلت التغيير في العربية أمرا صعبا، وحمَتها من التأثر كثيرا بلغات الأقوام الذين شملهم الإسلام بسيطرته السياسية، بل قد يقال إن العربية لم تشهد تطورا معجميا كبيرا بعد القرون الأولى للإسلام، وأصبحت كل المراجع اللسانية لها شبه مكتملة.

وبات القرآن والحديث وأشعار العرب والمعاجم المؤلفة في حقب قريبة من العصر الأول للإسلام، هي المصادر الأساسية، أو الوحيدة لتحديد ما إذا كانت كلمة ما عربية أم لا. واليوم يختلف الأمر فاللسانيات وعلوم اللغة تطورت كثيرا، وظهرت بعد العربية لغات تحكمت علميا وعمليا، في سير الحضارة وتحديد مفاهيم العصر، لغات نفعها – مع السيطرة السياسية والعسرية- قلة جمودها النحوي، وقابليتها الصرفية لتجاوز تلك الثنائية غير المرنة في العربية، ثنائية النحت والتعريب.

وقد نتفق على أن الإنجليزية هي لغة هذا العصر، لغة علومه وجل آدابه، لغة تقنياته ومعارفه، ولغة يكتب بها أكثرية مفكريه وعلمائه، حتى العرب منهم، بل ربما اضطررنا –نحن الناطقون بالعربية- إلى انتظار ترجمة كتاب لأحد مفكرينا حتى نستفيد منه.

لماذا تسعت الإنجليزية -التي لا يبلغ عدد كلماتها عُشر كلمات العربية- لكل  هذه المعارف؟ وتبقى لغتنا عالقة في انتظار أن تبت المجامع العلمية في جواز استخدام كلمة مّا، أو "نحت" مصدر أو اسم مفعول أو صيغة مبالغة من كلمة "غير عربية"، بينما تتطور الإنجليزية بمعدل سنوي يزيد عن ثمانين ألف كلمة، مما يعني أنها ستصبح اللغة الأولى معجميا في أقل من قرن.

لكن لاتملك العربية حتى اليوم معجما واحدا "رسميا" يحتكم إليه الجميع، وتستخدمُه مجامعها لإضافة الكلمات و"ترسيمها"، رغم أن تلك المجامع (في الأردن ومصر مثلا) تقوم بأعمال مهمة لخدمة اللغة.. ربما تبدو إشكالية الجمود اللساني هذه نقطة سلبية ضد العربية، وربما يراها البعض إيجابية، لكني أحب أن أنظر إلى الأمر من زاوية علوية، تحاول رؤية الموضوع كله في سياق تاريخي، مع الاحتفاظ بعمقه الألسني وتفاوت درجات الموضوعية والذاتية فيه، زاوية يمكن تلخيصها في تجربة القطة للفيزيائي النمساوي إيروين شرودينغر.

إن العربية الآن بالذات تشبه كثيرا تلك القطة، فلا هي حية تواكب العصر بكل ما يتطلبه من مرونة كلامية، و"تساهل" نحوي مع التشكيل اللساني، واستعداد صرفي لتمرير الكلمات نحو فضاء المعجم، ولا هي ميتة، إذ يتكلم بلهجاتها مئات ملايين البشر، ويحوي تراثها المكتوب والمنطوق ملايين الكلمات.

لا يمكن إغفال أن اللغة -أية لغة- ما لم تحافظ على مستوى معين من الواقعية ومسايرة الزمن بل وملاحقته أحيانا، فقد يخشى عليها الاندثار

العربية اليوم منقسمة بين العالمين بأصولها الذين يحاولون المحافظة على سلامتها من "التحريف"، وبين العاملين بها في حقول معرفية وصناعية وإعلامية و"تكنلوجية" كثيرة، يجدون أنفسهم مضطرين لإدخال كلمات إليها، ليست منها بحكم التاريخ، لكن لا بد لها منها بحكم الواقع.

ليس من الإنصاف -على كل حال- ولا من الحقيقة اعتبار أن العربية ضعيفة مقابل لغات أخرى، أو جامدة أكثر من اللازم مقابل مرونة غيرها، فلكل لغة طبيعتها ومجالات تطورها وأنساق اختلاطها بغيرها من اللغات، لكن في نفس الوقت، لا يمكن إغفال أن اللغة -أية لغة- ما لم تحافظ على مستوى معين من الواقعية ومسايرة الزمن بل وملاحقته أحيانا، فقد يخشى عليها الاندثار.

والحديث هنا يشوبه بعض التعميم، إذ للعربية خصوصية دينية تضمن لها البقاء، حتى ولو كان بقاءً في الكتب فقط، وفي نقاش سابق حول الموضوع نبهني صديق لي إلى ملاحظة مهمة تتعلق بحال العربية اليوم، إذ يكاد ينعدم وجود من يتحدث بها يوميا في محادثاته ومعاملاته المنطوقة، وإنما يتحدث أهلها كل بلهجته، فصارت لغة كتابة وقراءة فقط على عكس غيرها من اللغات العالمية التي لا تختلف كثيرا في شكلها الرسمي عن أحاديث العامة بها.

ولهذا الأمر أسباب كثيرة، ليس أدناها التنوع السوسيولوجي للعرب من المحيط إلى الخليج، وليس أقصاها واقع الأنظمة السياسية ومناهج التعليم في البلدان العربية.

يمكننا دائما التبرير بالخصوصية الدينية أو الثقافية أو المكانية، للتخلص من محاولة التغير والتغيير، لكننا ربما نغفل ونحن نفعل ذلك، أننا نظلم أنفسنا عندما نحرمها من حقها في الاختيار، وأدنى ذلك الحق أن يكون الإنسان حرا في اختيار ما ينطقُ به لسانُه، وأن يكون ما يتكلم به داخل المجموعة اللغوية مؤثرا ومغيرا لمجموع كلامها، مع الحفاظ على الضوابط اللسانية التي تحدد شكل اللغة العام، دون التماهي مع لغة أخرى ودون الذوبان في لسان آخر، ودون خلق لسان هجين لا هو بعربي ولا بأعجمي.

وبالنظر إلى هذا كله، ربما يجوز لي أخيرا أن أطرح هنا سؤالا للزمن القادم: ماذا ستكون النتيجة إذا ما قرر العرب يوما أن يفتحوا علبة شرودينجر عن لغتهم -في عصر تتحكم به لغات أخرى- هل سيجدونها ميتة بعدم قدرتها على التأقلم والانتشار وصنع الحضارة، أم ستكون حية نابضة قادرة على التصدر والتصدير؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.