شعار قسم مدونات

عيون يتناساها التاريخ

blogs-war

التاريخ كتاب ظالم، كتاب النخبة إن جاز التعبير ليس لي أو لك مكان فيه، ولا حتى في هوامشه الجانبية، كتاب مخصص مثلاً لإنجازات ما يلقب بالقائد فلان في حين أنه لا يتكرم على حارس شخصي الذي افتداه بحياته بسطر في الحاشية يذكر فيها اسمه، مع أنه بمعنى من المعاني شريك لذلك القائد في إنجازاته.. لكنه التاريخ والأمثلة على المهمَلين من أمثالنا كثيرة.

فأين التاريخ من عيني سعدية التي أرهقها انتظار زوجها المقاتل في الجبهات، حينما كان لحركة التحرر الوطني الإرترية سحرها الذي يخرج الرجل من بيته في رحلة بحث عن الحرية يترك فيها العائلة تتدبر أمرها، والأمل كله معلق على ما بعد الاستقلال المنشود، كحال سعدية التي كانت تعتاش على معونات الأهل وخَبز الكسرى (خبز محلي) و"مساعدة" الجارات في تنظيف المنازل، مقابل ما تتبلغ به وابنتها.

وحين يأتي حامد في زيارات متباعدة سرية، كانت تشتكي إليه الوحدة والشظف فيقول لها: أنت مناضلة مثلي ولولاك ولولا صبرك هذا لربما خارت مني العزيمة، فتسأله وإلى متى؟ فيجيبها بكلامه الغامض المفعم بالأمل: إلى حين تأتي الحرية، حينها سنعيش كراماً في بلادنا، سنخلف القهر والظلم وراء ظهورنا، يومها لن أزوركم سراً سآتي إليكم في وضح النهار.. مع الحرية سنعوض كل ما فاتنا من أيام.

ويغيب المقاتل وتتحرر البلاد ولا يعود، ويضيع خبره في غمار أخبار المقاتلين، وتبقى سعدية تنتظر وتتساءل إلى آخر أيامها: هل أتت الحرية حقاً؟ فأين حامد إذن وتبقى عيناها في انتظار تأكله الحيرة والقلق.

سعدية هذه لن يذكرها التاريخ الذي سيفرد الصفحات الطوال لقائد المعركة التي استشهد فيها زوجها، في حين سيغيب ذكر الشهيد تماماً، ولن يهتم لأمر زوجته ونضالها أحد، حتى الحركات النسوية لأنها لم تخلع جلبابها ولم تذهب للقتال كما فعلت أخريات، ستُنسى هي وأمثالها ممّن شكلن وشكلوا الحاضنة الشعبية والخط الخلفي الداعم للثوار والذي لولاه لما تحقق لهم أي إنجاز.

أين التاريخ من عيني حليمة ابنة سعدية التي عاشت يتم الطفولة وأبوها حي، لا تراه إلا على تطاول في الحين بعد الحين، وعندما تسأله: ألا تشتاق إلينا يا أبي؟! يضمها إلى صدره ويمسح على شعرها بيده الخشنة قائلاً: أذكركم كل يوم لكنه يا طفلتي دَين بأعناقنا للوطن لا بد من أدائه، وبعد أن تأتي الحرية سترين أنها كانت تستحق كل هذا.

وبقيت تنتظر لكن لم يأت الوالد بل أتت "الحرية" وقبلها الزوج الذي وجدت فيه تعويضاً عن دفء مفتقد، كان الزوج والأب والحبيب الذي امتلك قلبها، كانت تشفق عليه من أعباء عمله الدعوي فيواسيها بأنه دَين لا بد من أدائه لهذا المجتمع المتعطش للعلم.

سعدية لن يذكرها التاريخ الذي سيفرد الصفحات الطوال لقائد المعركة التي استشهد فيها زوجها

ولسبب لا يعمله إلا الله اختفى هذا المسكين هو الآخر، فأن تكون داعية واعياً ونشيطاً فهذا كاف لتشكيل عريضة اتهام تقذفك السلطات بها إلى أرض "العجائب" التي لا يعود منها إلا محظوظ، وتضيع عينا المسكين في عتمة الزنازين، يهمله التاريخ ومنظمات حقوق الإنسان ولا يذكره أحد، يُقال فقط إنه كانت هناك حملة اعتقالات جماعية سنة 1991، ويغيب اسمه في حضور الأرقام.

وتُنسى كذلك سعدية التي تنضم إلى أمها في صف المنتظرات للحرية والغائبين بعيون تأكلها الحيرة والقلق على زوجها..وعلى أحمد ابنها آخر ما بقي لها في دنياها.

وأين التاريخ من عيني أحمد الذي نشأ في عالم سرق منه أباه قبل أن يعيه، وسرق معه أشياء عزيزة أخرى الكرامة والشعور بالأمان والأمل بمستقبل يعمل المرء لأجله، ولعلمه أن "خدمة العلم" تنتظره فهو يكبر مكرهاً لأنه للأسف لا يستطيع أن يبقى صغيراً، فخدمة العلم في إرتريا غير محدودة الزمن ولا تُعرف سنة "الإفراج" منها، يجيب أمه حين تسأله إلى متى؟ بكلام قادته: يقولون إنه دَين للوطن لا بد من أدائه.

تلوعها الكلمة وتتراءى لها صور الغائبين فتتمتم: لقد كسرت الديون ظهورنا جميعاً، لا يفهم مرادها لكنها تكمل حاثة إياه على الهرب متى استطاع إلى السودان تخشى أن تفقده هو الآخر.

ويهرب أحمد إلى السودان ومنه إلى مصر ليُغرقه طريقه إلى أوروبا في بحر يتوسط عالمين، ويغيب خبره هو الآخر وينساه التاريخ بكل بساطة في زحمة الغارقين، وتبقى أمه تذكره وقد انضاف إلى قائمة الغائبين واحد، وعيونها تأكلها الحيرة والقلق.

كل هؤلاء نماذج حية لمغمورين من أمثالنا، يهملهم التاريخ بترفع مذهل يدمجهم في سلسلة أرقام تنزع عنهم كل آدمية، كأن لم تكن لهم أمهات وآباء وعائلات وأحلام، كأن لم يحبوا الحياة يوماً كأنهم لم يكونوا أصلاً! وسننساهم نحن أيضاً مع فيض القادمين إلى مسارب الذاكرة، ولا يبقى لهم إلا الحيرة والقلق ..ووجه رب كريم.