شعار قسم مدونات

حين نتجاهل كارثة

blogs - tv

كعادة المسلسلات الوافدة، تنقل لك صورة عن حياة بديعة متزنة، سوى من زوج خائن، من شقيق جشع، أو من فتاة تسعى جاهدة لأن تخطف حبيب أختها البكر.
 

تأتي المسلسلات الهندية لتجتاز كل هذا بسرعة الضوء، بقدرة فائقة ومرعبة، على جذب العوام المشاهدين، خاصة المشاهدين العرب، القابلين للتشكل غالباً مع كل ضربة شمس أو هزة ريح.
 

نسق درامي واحد، تجده في كل المسلسلات الهندية المدبلجة، فكرة واحدة تدور حول كم هي قدرتك على تحمل الضغط النفسي، التوتر، الاستفزاز، الاستخفاف السطحي والمبتذل والمبالغ فيه حد السذاجة.. استخفاف فجّ بعقلية المشاهد، إلى درجة تجعلك ساذجاً كبيراً يتخلى عن منطقه كما يتخلى البطل عن معطف شتائه.. تسطيحٌ قاتل لفكرة المجتمع ولقضاياه، يبعث على الفزع المر، خصوصاً حين تجد رقماً بعشرات الملايين على قائمة مدمني المسلسلات الهندية من المشاهدين العرب.
 

هذا الاستخفاف الرهيب، الذي يهز ثقتك بكل من حولك، ويجعلك تعيش في عالم من الوهم والخيال، عالمٌ ساذج، ومليء بالخيالات، بالأشباح، بالخيانات المعقدة، والعقد النفسية

استفزاز دائم على هيئة شخصيات متناقضة، تقطن ذات المكان، وتمارس العبث بوقت قياسي؛ فهناك البطل الملاك، والذي يبدو مغفلاً دائماً، كل شيء يقف ضده، من وجبة إفطاره حتى إطار سيارته، ومن سوار معصمه حتى ثقوب ملابسه الداخلية، فهو أصم، وأعمى، وبريء إلى حد السذاجة المطلقة، قد لا يسمع ألف صرخة نداء، وقد يغفل عن ألف جريمة تحصل بوجوده وبغيابه، يغيب دائماً في كل الأوقات وبكل الأماكن.

بالمقابل هناك البطل المناقض، البطل الشرير، يقَدَم على أنه خارق، كل شيء لصالحه، وبدون أدنى منطق، يعدّ المخططات على ناره الهادئة، دائماً منتصر، يجيد كل شيء، يصادف كل شيء، يحضر بكل الأماكن، ويستفزك طوال المسلسل، بدون أدنى احترام أو اعتبار لمنطق المشاهد وعقليته!
 

هذا الاستخفاف الرهيب، الذي يهز ثقتك بكل من حولك، ويجعلك تعيش في عالم من الوهم والخيال، عالمٌ ساذج، ومليء بالخيالات، بالأشباح، بالخيانات المعقدة، والعقد النفسية.. عالمٌ يهز كيانك من الداخل، من خلال كم الاستفزاز الهائل، الذي تعيشه طوال فترة المسلسل، والذي بمقدوره أن يجلب لك كل علل الكون، ابتداء من الكوابيس المفرطة، مروراً بضغط الدم والسكري، وانتهاءً بمرض القولون العصبي الحاد.
 

فهي علاوة على أنها تقدم لك نموذجاً باهتاً من الإخوة الأعداء، الأصدقاء الأعداء، الأم السيئة، الفتى المنحرف، الزوجة الخائنة، الشقيق الجشع، تمس عقائدك وثوابك من العمق الخفي لتكوينك بطريقة سمْجة وساذجة، وتبعثك على التقيؤ "لو أدركت".
 

بطل مجرم، منحرف، يقدّموه لك غالباً كضحية، ويجدر بك التعاطف معه، وحتى الصلاة لأجله، على نحو يترك أثراً من استساغة الجريمة، وتطبيع الانحراف، في مجتمع لا يشبهه سوى مغناطيساً شديد القطبية في محيط ثري من برادة حديد رديئة، وسوى ذلك الكثير من التفاصيل العقائدية والمجتمعية، والتي تحضر غالباً كأنها أمور عادية في سياق الأحداث، غير أنها ترويجٌ متقن لطقوس، يتقبلها المشاهد كوضع مثالي، ويكتشفها سمة في شخصيته، تجره دائماً لتقليد أعمى وغبي.
 

وبكل هذا التفصيل، يظهر لنا المجتمع بعلاته، على شكل بطل ساذج وقف ضده مجتمع شرير، في جو من الريبة والشك، ومع كثير من الضغط النفسي والحبكة الساذجة، والمحتوى الفارغ الأجوف من أي معنى، من أي غاية، ومن أي مبدأ.
 

تزييف قاتل للمشاعر وتقديم المجتمع على صورة نمطيات سيئة "عشق كاذب، أمومة ماكرة، أُخوة مزيفة، صداقة منافقة، براءة ساذجة، وسوى ذلك من الخيال السيء الباهت الفج".
وفي وقتٍ لا نجد ما يقابل كل هذا الغثاء على ساحتنا الفنية، نحن مضطرون دائماً لتحمل العواقب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.