شعار قسم مدونات

عاصمة الضحك.. تبكي

epaselect epa05551826 A bus, carrying rebels and family members, leave the besieged neighborhood of al-Waer in the central city of Homs, Syria, 22 September 2016. According to media reports, some 120 gunmen, some of them are accompanied by their families, got out of al-Waer, as part of the third phase of agreement of settlement with the Syrian government. The evacuees are expected to head to the northern countryside of Homs.

لَمْ يَكُنْ الْأَرْبِعَاءُ يَوْمًا عَادِيًّا فِي حُمْصَ، إِنَّهُ الْعِيدُ الْأُسْبُوعِيُّ، لِمَجْمُوعَةٍ مِن النَّاسِ، تَعِيشُ بِجِوَارِ مَسْجِدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ، يُسَمِّي أَهْلُ الْمُدُنِ الْأُخْرَى الأربعاء "عِيدَ الْمَجَانِينِ"، لَكِنَّ الحماصنة آخَر مَا يُفَكِّرُونَ بِهِ هُوَ رَأْيُ الْآخَرِينَ، لَيْسَ عَنْ ثِقَةٍ بِأَنْفُسهِمْ فَحَسْبُ؛ بَلْ عَنْ شُعُورِهِمْ غَيْرَ المَحْدُود بِالْعَظَمَةِ وَالْجُذُورِ الضَّارِبَةِ فِي عُمْقِ التَّارِيخِ.
 

يَبْدُو مِنْ الطَّبِيعِيِّ أَنَّ الْفَرَنْسِيِّينَ يُخْبِرُونَ النُّكَتَ عَن الْبَلْجِيكِيِّينَ، أما التُّونِسِيُّونَ عَنْ أَهَالِي مَدِينَةِ سُوسَةِ، وَمِصْرَ عَنْ أَهْلِ الصَّعِيدِ، وَنُكَتُ الشَّامِ تَتَحَدَّثُ عَنْ الحماصنة. لَكِنَّ مِنْ غَيْرِ الطَّبِيعِيِّ أَنَّ أَهْلَ حمْصَ نَفْسِهَا يُلْقُونَ النُّكَتَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَبِكُلِّ فَخْرٍ، إِنَّهُمْ الشَّعْبُ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ الْبَسَاطَةِ وَالذَّكَاءِ، لَا مَكَانَ لِلتَّعْقِيدِ فِي حمْصَ، كُلَّ شَيْءٍ مُيَسَّر، وَكُلُّ شَيْءٍ مُمْكِن، كُلّ النَّاسِ فِي حمْصَ -حُمْص بِضَمِّ الحَاء لَا كَسْرِهَا- طَبَقَة وَاحِدَة، فمِنْ أَيٍّ حَارَّةٍ كُنْتَ سَتُقَابلُ بِعِبَارَةٍ "عَلَى رَاسِي.. حَارَتكَ".
 

أَنْ تَلْتَقِيَ ﺣﻤﺼﻴًﺎ فِي الْجَامِعَةِ أَوْ فِي سَهْرَةٍ يَعْنِي أَلَّا تَنْسَاهُ أَبَدًا، سَتَذْكُرُ تِلْكَ الْجَلْسَة أَيَّامًا وَأَيَّامًا، سَوَاءَ أَعْجَبَتْكَ أَمْ لَمْ تُعْجِبْكَ،هُنَاكَ سِرٌّ عَجِيبٌ وَجِينٌ وِرَاثِيٌّ خَلْفَ كُلِّ ذَلِكَ.

حُمْصُ لَهَا قِصَصُ مَعَ التَّحَدِّي، فِيهَا نَهْرُ الْعَاصِي، الَّذِي عَصَى وَتَحَدَّى أَسْيَاد الْأَنْهَارِ فِي الْمِنْطَقَةِ، والَّتِي تَنْبُعُ مِنْ الشَّمَالِ وَتَصُبّ فِي الْجَنُوبِ، كَنَهْري دِجْلَة وَالْفُرَات فكَانَ مَنْبَعُهُ جَنُوبًا، وَمَاؤُهُ يَتَسَلَّقُ نَحْوَ الشَّمَالِ . حمْصُ الْمَدِينَة الْوَحِيدَة الَّتِي تَحَدَّتْ نِظَامَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ؛ فَالْأُوقِيَّةُ فِي كُلِّ الشَّامِ مِئَتَا غِرَام، إِلَّا فِي حِمْصَ فَهِيَ تُعَادِلُ الرُّبْعَ كِيلُو، وَسُمِّيَتْ أُوقِيَّةُ حمصية.
 

لِلْمَجَاذِيبِ فِي حمْصَ احْتِرَامَهُم الْخَاصّ، حَتَّى سَمَّاهُم الحماصنة بِأَنَّهُمْ "عَلَى الْبَرَكَةِ" وَلَقَدْ حَضَرَت سَنَوَاتٍ عِنْدَ مَشَايِخَ فِي حمْصَ، يُجْلِسُونَ جَانِبَهُمْ مَجْذُوبًا طِيلَةَ الدَّرْسِ، وَحَتَّى رَابِطَةِ مُشَجِّعِي نَادِي الْكُرَةِ الحمصي الْكَرَامَةَ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ طَيِّبٌ مِنْ الْمَجَاذِيبِ.
 

لَا أَحَدَ يَعْلَمُ سِرُّ الحماصنة، وَلَا سِرَّ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ التُّرَاثِيَّةَ تَقُولُ إِنَّ غَازِيًا مِنْ الْغُزَاةِ أَرَادَ اقْتِحَامُ مَدِينَةِ حِمْصَ في يوم أربعاء، فَلَمَّا وَجَدَ أَهْلُهَا أَنْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ بِهَذَا الْمَلِكِ وَجُنُودِهِ، وَلَمْ يُرِيدُوا تَوْقِيعَ صُلْحٍ وَاسْتِسْلَامٍ لَهُ، لَمَعَتْ بِرُؤُوسِهِمْ فِكْرَة ظَرِيفَة؛ فَادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَجَانِينُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ يُصَابُ بِالْجُنُونِ، وَصَبَغُوا وُجُوهَهُمْ وَارْتَدَوْا أَزْيَاءً تُرَسِّخُ فِكْرَةَ الْجُنُونِ، فَصَرَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ غَيْر مُسَنَّدَةٍ،وَرُوَاتُهَا مَجَاهِيل،وَلَكِنْ ذَلِكَ كُلّهُ "مو مُشْكِلَة" عند الحماصنة.
 

فِي حمْصَ رُكُوب الْبَاصِ الدَّاخِلِيِّ الأخضر -عَلَى عَكْسِ بَاصَاتِ الدُّنْيَا- يُعْتَبِرُ سِيَاحَةً، تَسْمَعُ قِصَّةً مِنْ هَذَا، وَنُكْتَةً مِنْ آخَرَ، وَتَأْخُذُ عَوْنًا مِنْ ذَلِكَ، وَبِرَغْمِ الِازْدِحَامِ وَالْحَرِّ؛ الْكُلُّ شِعَاره الِابْتِسَامَةُ وَالْمِزَاحُ، وَمِزَاحُ الحماصنة خَفِيفٌ لَطِيفٌ لَكِنَّهُ يَسْتَعْصِي فَهْمَهُ أَحْيَانًا عَلَى أَهْلِ الْمُدُنِ الْأُخْرَى، مِمَّنْ لَيْسَ لَدَيْهِمْ خِبْرَةٌ بِالضَّحِكِ وَلَا دُرْبَةٌ عَلَى إِبْرَازِ الْأَسْنَانِ، فَيُفَسِّرُونَ هَذِهِ الظَّرَافَةَ الْمَبْذُولَةَ لِكُلِّ أَحَدِ أَنَّهَا جُنُونٌ.
 

أَنْ تَمْشِيَ فِي سُوقِ حِمْصَ الْمَسْقُوفِ، يَعْنِي أَنَّكَ تَتَلَقَّى جرعة زَائِدَةً مِنْ الِانْبِسَاطِ، سَتُؤَثِّرُ عَلَى الْمُعَدَّلِ الْأُسْبُوعِيِّ الْمَسْمُوحِ بِهِ مِنْ "الْكَيْفِ". أَنْ تَلْتَقِيَ ﺣﻤﺼﻴًﺎ فِي الْجَامِعَةِ أَوْ فِي سَهْرَةٍ يَعْنِي أَلَّا تَنْسَاهُ أَبَدًا، سَتَذْكُرُ تِلْكَ الْجَلْسَة أَيَّامًا وَأَيَّامًا، سَوَاءَ أَعْجَبَتْكَ أَمْ لَمْ تُعْجِبْكَ،هُنَاكَ سِرٌّ عَجِيبٌ وَجِينٌ وِرَاثِيٌّ خَلْفَ كُلِّ ذَلِكَ.
 

كُلّ مَا سَبَقَ وَغَيَّرَهُ كَثِيرٌ؛ دَعَا نُشَطَاء لِإِطْلَاقِ مُبَادَرَةٍ،لِتَرْشِيحِ حمْصَ عَاصِمَةً عَالَمِيَّةً لِلضَّحِكِ لَدَى الْيُونِسْكُو. لَكِنَّ تِلْكَ الْعَاصِمَةَ الْمُفْتَرَضَة لِلضَّحِكِ، أَصْبَحَتْ فَجْأَة عَاصِمَة الثوْرَةِ السُّورِيَّةِ، لَمْ يَرْكَبْ أَبْنَاؤُهَا مَوْجَةَ الثَّوْرَةِ، بَلْ هم منْ صَنَعُوهَا، لَقَدْ أَحَبُّوهَا إِلَى حَدِّ الْجُنُونِ، كَانَ إِخْلَاصُهُمْ لَهَا حَتَّى الْمَوْتِ، هَتَفُوا لَهَا،وَدَافَعُوا عَنْهَا، وَقَدَّمُوا بُيُوتَهُمْ فِي سَبِيلِ انْتِصَارِهَا حَجَرًا حَجَرًا، وَقَدَّمُوا أَبْنَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ كَرَامَتِهِمْ وَلَدًا وَلَدًا. ثاروا ولم ينسوا طبعهم المرح، ومع انطلاق الثورة كانوا يطلقون النكات بشكل متوازي مع المظاهرات والحصار، منها الخيالي ومنها الحقيقي ومن هذه النكات:
 

"حمصي أوقفوه على حاجز أمن وسأله الضابط: أنت كنت تهتف في المظاهرة.. قال له الحمصي: لا والله، فقال الضابط أسمعني أي أغنية لأرى إذا صوتك مبحوح.. فهتف الحمصي: يا درعا حنا معاك للموت"، "وقد سأل أحدهم حمصيا أين بيت أبو فلان فأجابه بعد ثالث دبابة على يدك اليمين"، "قام بعض الشباب في أحد أحياء حمص بجمع القمامة في أكياس ووضعها على عربات لإخراجها من الحي بعد أن منعت سيارات البلدية من الدخول، وعندما مر الشباب أمام حاجز الأمن أوقفهم وسألوهم باستهزاء: بكم كيلو الزبالة اليوم؟ فرد عليه أحد الشباب قائلاً: إنت دوقن، إذا عجبوك ما منختلف عالسعر".
 

ويقال أنه "في إحدى المواجهات بين قوات الأمن بأسلحتهم وعتادهم الحربي وبين بعض الحماصنة بذكائهم وفطنتهم انسحب المتظاهرون ولكن لسوء حظ أحدهم تأخر عن رفاقه فتجمع عليه الأمن وأحاطوا به وحين هموا بالانقضاض عليه بالهراوات صاح أحد رفاقه الأذكياء: فجّر حالك فجّر حالك، فهرب الأمن وعاد الحمصي سالماً".
 

لقد كان الحماصنة يقاتلون ويبذلون ويضحكون معًا المحاصر سعيد والمريض سعيد والجائع سعيد والشهيد سعيد، حَتَّى أركبهم الْمُجْتَمَعُ الدَّوْلِيّ الْبَاصَاتِ الْخُضْرَ، بَاصَاتِ النَّقْلِ الدَّاخِلِيِّ الَّتِي كَانَتْ تَمْتَلِئُ بَهْجَةً وَسُرُورًا في السابق، امْتَلَأَتْ هَذِهِ الْمَرَّة صَمْتًا وَأَلَمًا، رُبَّمَا منْ رَكب الْبَاصَاتِ الْخضْرَ مِنْ أَبْنَاءِ حمْصَ هُوَ مَحْظُوظٌ نِسْبِيًّا، فَغَيْرُهُ أُخْرج مِنْ أَرْضِهِ عَلَى فُتْحَاتِ الْمَوْتِ، وَشِعَابِ الْجِبَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ دُفِنَ فِيهَا.
 

الحماصنة الْيَوْمَ لَهُمْ أَبْنَاءٌ يُحَارِبُونَ فِي الشَّمَالِ السُّورِيِّ، سَيَعُودُونَ يَوْمًا لِتَحْرِيرِهَا، سَيَفْتَحُونَ أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ لِلْفَاتِحِينَ، وَسَيُلْقُونَ عَلَيْهِمْ أَكَالِيل الزَّهْرِ وَالْغَارِ، وَسَيُلْقُونَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بَعْضُ النِّكَاتِ.

لَمْ يَعُدْ جَامِع خَالِد الَّذِي كَانَ يَضِجُّ بِهُتَافِ حَنَاجِرَ الثُّوَّارِ، وزغردات أُمَّهَاتِ الشُّهَدَاءِ، لَمْ يَعُدْ لَهُمْ،لَقَدْ رَحَلُوا وَبَقِيَ خَالِدٌ مُتَّكِئًا فِي قَبْرِهِ، بَعْدَ أَنْ تَعَلَّمُوا كُلَّ دُرُوسِهِ، وَرُبَّمَا أَخْطَؤُوا فِي تَنْفِيذِهَا، أَوْ أَنَّ الْأَكْلَةَ عَلَى الْقَصْعَةِ قَدْ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِمْ . لَمْ تَعُدْ عَاصِمَةُ الضَّحِكِ الَّتِي احْتَوَتْ يَوْمًا مَا بِسَذَاجَةٍ أَوْ مُرْغَمَة، مِئَاتِ الْعُنْصُرِيِّينَ، الَّذِينَ نَزَلُوا إِلَيْهَا مِنْ سُفُوحِ الْجِبَالِ، لَمْ يَعُدْ لَدَيْهَا قَلْبٌ لِكَيْ تَضْحَكَ بِهِ،وَلَمْ يَعُدْ لِأَبْنَائِهَا رُوح الْمَرَحِ فِي مُخَيَّمَاتِ الْبَرْدِ وَالْجُوعِ، إِنَّهُمْ لَا يُلْقُونَ النِّكَات وَهُمْ يُعَبِّرُونَ بَحْرَ إيجة، نَحْوَ دُوَلِ لَيْسَ لَهَا عَوَاصِمَ لِلضَّحِكِ،لَقَدْ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ خَلْفَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ.
 

سُوقُهَا الْعَتِيقُ،مَسْجِدهَا مَآذِنُهَا كُلّهَا تَهَدَّمَتْ،صَحِيحُ أَنَّ النَّازِلِينَ مِنْ الْجِبَالِ لَمْ يُحَوِّلُوهَا لِمَزَارِعَ لِلْخَنَازِيرِ ؛لَكِنَّهُمْ يُسْكنُونَ فِيهَا أَوْلَادُهُمْ وَاعْتَبَرُوهَا بُيُوتِهِمْ . الحماصنة المشردون اليوم في كل بقاع الأرض المتخلفة والمتحضرة لا ينقلون ثقافة الضحك للعالم بل يحنون لحمص وحياة الكفاف فيها ويستذكرون:
 

حمص الحياة ويَكْفي اللهُ سَاكنَها بِنتَ الوَليدِ أَيا أُمَّ المسَاكينِ
تَحْكي القَصائد عَن حمصٍ وضِحكتها وعَن قُراها وعَن عَقْل المَجَانينِ
حتَّى إذَا مَا أَرادَ البَغيُ عفّتَها وَأشْعلَ النَّارَ في كلِّ الميَادينِ
تسَلَّلَ المَوْتُ لَيلاً في أزِقَّتهَا حَتَّى مَحَا الطُّهرَ عُبّادُ الشَّياطينِ
ما عَادَ في حمصَ "بَسْطَاْتٌ" لِبَهْجَتِهَا وَصَارَ للمْوتِ آَلافُ الدَّكاكينِ
بِنتُ الْوَليدِ كَسَتْهَا الْحَرْبُ في عَجَلٍ أَكْفَاْنَهَا البيضَ مِنْ بَعْدِ الفَسَاتينِ
الأرْبِعَاءُ بَكَى،حَتَّى طرائفها قَدْ أدمعت وَجَرَىْ دَمْعُ البَسَاتينِ
 

الحماصنة الْيَوْمَ لَهُمْ أَبْنَاءٌ يُحَارِبُونَ فِي الشَّمَالِ السُّورِيِّ، سَيَعُودُونَ يَوْمًا لِتَحْرِيرِهَا، وَيَوْمهَا لَنْ يُمَثِّلَ مِنْ تَبْقَى مِنْ الْعَجَزَةِ وَالنِّسَاءِ فِيهَا دَوْرُ الْمَجَانِين، سَيَفْتَحُونَ أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ لِلْفَاتِحِينَ، وَسَيُلْقُونَ عَلَيْهِمْ أَكَالِيل الزَّهْرِ وَالْغَارِ، وَسَيُلْقُونَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بَعْضُ النِّكَاتِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.