شعار قسم مدونات

من غروزني إلى الكويت

blogs - shishan
يعاني أهل السنة والجماعة اليوم أكثر من أي وقت مضى من مأزق الانتماء والهوية وتشظي الهوية الجامعة إلى هويات متصارعة فيما بينها البين، وما بينها وبين محيطها. وهذا ما بدا جلياً واضحاً في المؤتمرات التي بدأت تتركض لمصادرت هذا المفهوم وجعله حكراً على فئة بعينها.

ويظهرهذا الاستقطاب الحاد إما على اساس التباعد في التصور السياسي للجماعات الإسلامية الحركية التي تجعل من الأيديولوجيا علامة فارقة في تشكيل هذه الهوية، فهي تنطلق من مشروع سياسي جاهز تدعوا الناس إليه، والذي انتهى إلى وجود تيارين بارزين تيار يتبنى الخيار السياسي وتيار يتبنى الخيار القتالي مع بعض الاستثناءات البسيطة التي لا تؤثر على التصنيف العام.

لا يجوز بحال من الأحوال اعتماد معايير ضيقة في تحديد النسبة إلى الهوية السنية.

وأما على أساس الاختلاف الكلاسيكي المعروف بين الأشاعرة وأهل الحديث والماتردية حول مسائل التأويل والإثبات لمسائل الصفات وطرق الاستدلال على العقيدة وجدلية النقل والعقل وغيرها.

كما يضيق مفهوم أهل السنة عند البعض فلا يكاد يتسع إلا لجماعته وأهل مشربه؛ حتى تجد بعض هذه الهويات قابل للتكاثر والانشطار، فأمام أدنى خلاف فرعي ربما تشكل جماعة جديد وتجعل من رأيها مقياساً ومعياراً قطعياً للانتماء السني. والحق أن كل مسألة وقع فيها الخلاف بين أهل العلم وصارت محلا للتنازع فهي من قبيل الظن التي لا يبنى عليها تكفير، ولا يقوم عليها جماعة وأحزاب وعصبة ولا تشكل هوية جامعة للأمة.

إن علماء السلف أدركوا مسألة نسبية الأفكار وميزوا بين قطعي الدلالة أو الثبوت وبين ظني الدلالة أو الثبوت، وهذا ما غفلت عنه بعض الجماعات وقد جعلوا للمسائل الواقعة في مساحة البزخ بين القطعي والظني داخلةً في تشكيل الهوية. فتارة يجذبها البعض نحو مساحة المظنون وتارة يجرها إلى دائرة القطع، وبين الشد والجذب تبدع جماعات وتخرج جماعة من دائرة السنة إلى دائرة البدعة.

إنه لا يجوز بحال من الأحوال اعتماد معايير ضيقة في تحديد النسبة إلى هذه الهوية السنية، فإن المكونات السنية الممنهجة ابتدعت معايراً ظنية جزئية في تحديد النسبة للهوية السنية؛ هي أضيق من سُم الخياط مما يحيل ولُوجَهُا متعسراً على عموم المسلمين ويجعل من الأمة السنية أقليات متصارعة.

كمن يجعل من خلاف الأسماء والصفات هو المعيار الفصل في ذلك، وآخر يجعل من مسألة إقامة الخلافة والمشروع السياسي هو الأس الذي يحدد الهوية السنية، والبعض يجعل من خيار الجهاد القتالي والغلو في مسألة الحاكمية الميزان الأوحد، وهناك من يجعل الموقف من مسألة الخلاف الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم هي المعيار المميز، ومعايير كثيرة يضيق المقام عن ذكرها وحصرها.

ولو كان المعيار في تحديد الهوية السنية هو اتباع ما نص عليه القرآن والسنة، وما جاء في هدي الصحابة رضي الله عنهم في الفقه السياسي من الإنكار على الحاكم الجائر ورفض التغلب وإقامة الشورى مثلاً؛ لخرج الكثير من محتكري الهوية السنية إلى دائرة البدعة الضالة.

إنه لمن المعروف بداهة ومن الثابت تاريخياً أن هذا المصطلح إنما نشأ لا ليدلل على ميلاد فرقة جديدة، فميلاد أهل السنة والجماعة كان مع يوم ميلاد الإسلام الذي جاء به الوحي وانما ليميز جماعة الأمة عن غيرها من الفرق التي اختارت طريق الانحراف من السنة إلى البدعة.

وهنا يضيء لنا المعيار الذي نراه الأقرب إلى الصواب في تحديد ماهية أهل السنة والجماعة وهو يتناول، جانبين جانب منهجي وجانب سياسي.

الجانب المنهجي في مدلول أهل السنة والجماعة، وهو منهاج التلقي من السنة باعتبارها مصدراً للوحي والأحكام التكليفية على الطريقة التي حددها علماء الحديث، فأي جماعة تعتمد السنة مصدراً للتلقي والتشريع وفق منهج التلقي السني فهي داخلة في هذه الدائرة ولا عبرة لاختلاف الأفهام المعتبرة في جزئيات هذا المصدر سواء أكان في الرواية أم في الدراية.

فاعتماد السنة مصدراً لتلقي الدين مسألة من أصول الاعتقاد والأمة إنما تجتمع على العقيدة الواضحة المقطوع بها والأصول الثابتة، ولا تجتمع على الأدلجة المظنونة، وإن حاول صاحبها أن يلبسها لباس العقيدة ويدعي قطعيتها ومطلقيتها.

لذلك نجد أن الفرق المبتدعة أول ما تقوم بنقضه من عرى الإسلام، هو نسف مرجعية السنة كمصدر يبين مجمل القرآن ويخصص عمومه ويبين مشكله ويقيد مطلقه حتى تتحرر لديهم مساحة حرة للرأي والهوى في فهم الكتاب ولي أعناق النصوص إلى ما يشتهون.

وعلى هذا المعيار الذي ذكرناه آنفاً يخرج من طعنوا في عدالة الصحابة من جعلهم الله تعالى أمناء على نقل ميراث النبوة، لأن إسقاط الناقل هو إسقاط للمنقول لزاماً. وكذلك يخرج من جعلوا من العقل حكماً على النقل ومن فسروا النقل بعيداً عما تقتضه لغة العرب وغيرهم من النحل.

وأما في الجانب السياسي لمدلول أهل السنة و الجماعة، وهو تمسكهم بجماعة المسلمين فلم يفرقوها، أحزاباً وشيعاً، لأن أهل السنة اليوم هم عنوان الأمة وجسدها، وهذا الجسد يتشكل من دوائر متداخلة نفصل فيها في معرض التدارس، ونجمل فيها في زمن المواجهة الاستراتيجية والتحدي الخارجي.

لا بد من اصطفاف جديد يقوم على أساس المفهوم السياسي لمسمى أهل السنة يفوت الفرصة على أعداء الأمة وعلى وكلائهم من طغاة الاستبداد السياسي.

لكن الغريب عند الجماعات والمدارس الإسلامية أن إسقاط الوصف عندهم دائما ما يتناول النسبة المنهجية للأمة بتفاصيلها الدقيقة، ولا يتناول الاجتماع السياسي بمعالمه العملاقة الواضحة ثم تستثمر الخلافات المنهجية من قبل الحكام المستبدين لإرهاق الصحوة الاسلامية عن الاجتماع السياسي والإبقاء عليها مجهدة في مضمار الجدل الهوياتي. فيغدون فرقاء متشاكسون يبحثون عن من غير جماعة يخوضون صراعا في ساحة لا عدو فيها كنوع من تصريف الطاقات الزائدة القابلة للانفجار وتتشاغل عن مواجهة الاستبداد السياسي عدوها المشترك وحارس تناقضاتها الأمين، وهذا ما يحصل اليوم في مؤتمرات تعقد لتزيد الشتات وتوظف الخلافات لصالح العدو.

هنا ينبغي على عقلاء الأمة من العلماء والمفكرين تجاوز حالة الخصومة الكلاسيكية بين مدارسهم على أساس الاختلافات المنهجية والمسميات المعروفة بين أشعري وسلفي وماتريدي وغيرها، والتي تجتر في كل مرة عند أكثر ظروف الأمة خطورة وحساسية لمصالح سياسية يستثمرها الاستبداد السياسي في خلق صرعات بينية تطيل أمد حياته وتجهض ثورة الشعوب المخدوعة بجدل الأدلجة.

ولا بد من اصطفاف جديد يقوم على أساس المفهوم السياسي لمسمى أهل السنة يفوت الفرصة على أعداء الأمة وعلى وكلائهم من طغاة الاستبداد السياسي ممن يستثمرون هذه الثغرات لينفذوا منها إلى خطوطنا الخلفية في كل مرة.

وليقوم هذا الاصطفاف على أساس مواجهة الأعداء ومفاضلة الظالمين والطغاة ومن اصطف بصفهم كائنا من كان ولأي مشرب انتسب.

فإن سنية المواقف التي تَعبُرُ بالأمة نحو حريتها أصدق في تعبيرها عن الهوية والانتماء من سنية الرسوم والدعاوى والتنظيرات التي تبقيها راسفةً في قيود الاستبداد والقهر والاستعباد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.