شعار قسم مدونات

الأمن الأخلاقي للمجتمع

blogs - city

تكاثرت في هذه الأيام القليلة الهزات الارتدادية التي تحوم حول ما أسميه بالأمن الأخلاقي للمجتمع والأمة، ولعل الصيحات الفيسبوكية الكثيرة والعالية، التي تصدح بها سائر حسابات الشباب على شبكات التواصل الاجتماعي من أبرز الدلائل وأفصحها –هذا إن احتاج النهار إلى دليل كما يقال- على أن الأمر حين يتعلق بالقيم الكبرى التي لا ينازع حولها إلا شاذ يحلق خارج السرب ، فإن "كريات الجسد المغربي كلها الحمراء والبيضاء" تتضامن وتتحالف وتقف بارزة مكشرة عن أنيابها من أجل تنشيط جاز المناعة، وإيقاف العناصر الغريبة والدخيلة التي تروم محو الذات وطمس معالم كينونتها المادية والمعنوية.

لا يمكننا البتة نحن شعوب وأمم الاستهلاك والاستقبال، أن نغير مجرى الغزو الهائل الذي يعصف بعقول أبنائنا وبناتنا في كل ثانية ودقيقة وساعة.

غير أنني اختلف مع كثير من الآراء المتشائمة التي ذهبت في اتجاه القول بوجود مؤامرة شريرة محبوكة تحاك ضد قيم الشعب المغربي وتاريخه وأمجاده، وأن مناعة الوطن في مهب الريح كيف لا؛ وهي على شفا جرف هار سيهوي بنا جميعا أفراد وجماعات، نساء ورجالا  كهولا وشبابا ، في قاع صفصف مما سيذهب بريحنا، ويعرضنا للفشل الذريع والانهيار القاتل.

إن ما وقع لنا وما سيقع في القادم من الأيام والشهور والأعوام والدهور لهو من صميم ضريبة العصر، وغرامة التقدم والعولمة وما أتى معهما وبهما من تكنولوجيات رقمية، وعادات وسلوكات غربية دخيلة.

لا يمكننا البتة نحن شعوب وأمم الاستهلاك والاستقبال، أن نغير مجرى الغزو الهائل الذي يعصف بعقول أبنائنا وبناتنا في كل ثانية ودقيقة وساعة.. إننا نقف حيارى مشدوهين أمام هذا الواقع الذي لم يكن لنا دخل في صياغته وفي تموجاته وحركاته.

لكننا نملك مع ذلك أقساط هامة ومهمة من المسؤولية في دفع الضرر اللاحق والخطر الداهم، الذي يستهدف ثوابت الأمة وحصانتها التاريخية، وأمنها الأخلاقي والروحي. ولعل التشدق بمطالب الحرية أسوة بالغرب المتحضر ماديا من الموبقات والسيئات التي تسللت إلى عقولنا وسلوكاتنا اليوم.

لقد أصبحنا نرى ونسمع بحجة الحق في ممارسة الحرية، كثيرا من الأصوات الشاذة والنشاز تدعو للإباحية والتجرد من الأخلاق الحميدة، والتحرر من قيود القانون والعادات الاجتماعية والأسرية، التي بدأ كثير من بني وطننا يعتبرونها من صميم التخلف والتبعية العمياء للتراث السلوكي البعيد عن روح العصر، وما يعرفه من تموجات فكرية وحضارية وعلمية.

والحقيقة أن التشبه بالغرب في موضوع الحرية، والمطالبة بتمتيع الأفراد والجماعات بحقوقها كاملة في التصرف في الجسد، والركوع لنزواته وأهوائه وغرائزه فيه من الغلو والتطرف والبعد عن المنطق والصواب، وما أجمعت عليه الأمة وما استقر عليه رأي جمهورها الواسع والمتخصص.

لاجدال في أن الجسد والنفس أيضا عائدان لملكية صاحبهما، وله مطلق الحرية في التصرف فيهما، لكن هذا الجسد وتلك النفس إن زاغتا عن مقاصد المجتمع ، وخرجتا عن إجماع العقل والفؤاد، ما العمل؟

إن الذي يخرج عاريا أمام المارة والرأي العام يعتبر نفسه حرا في جسده، وكذلك الذي يحمل حزاما ناسفا هو أيضا، يزعم أنه يملك مطلق الحرية في جسده وفي نفسه، لذلك وبسبب غلوه، وجهله بمقاصد الشرع والكليات الخمس التي حددها علماء الشريعة فإنه لا يلقي بالا للأذى الكبير الذي يمكن أن يلحقه بالمجتمع وأفراده إن هو عرض حياتهم للخطر بسوء تفكيره، وطيش سلوكه، واندفاعه الأرعن نحو أفكار الهدم والظلام.

إن الإنسان حر في جسده ولاشك في هذا الأمر، لكن حريته مقيدة بشروط تتعلق بعدم إلحاق الأذى بغيره من الناس ، سواء أكانوا يقربونه، أم بعيدون عنه. إننا لا نعيش في مجتمع الغاب، بل في مجتمع إنساني ويحكمه الإنسان من أجل رفاهية الإنسان وليس ليلحق بعضنا الأذى بالبعض الآخر، سواء في السر أم في العلن مباشرة أم بواسطة.

إن استقراء تاريخ البشرية جمعاء يبين لنا كيف أن معيار السواء في شخصيات الناس، ظل مرتبطا أساسا بمقدار اندماج الإنسان في وسط الجماعة والمجتمع، وانصياعه الطوعي والتلقائي لقوانين الأمة والأغلبية الغالبة بالعقل والحكامة وليس بالعنف والاستبداد واستعمال النفوذ.

وبالعودة للضجة التي أثارها منع شريط  سينيمائي "الزين اللي فيك" لمخرجه نبيل عيوش -ربما مول من أموال دافعي الضرائب- لا يستحق أن ندبج حوله الخطب، وأن نكتب عنه المقالات، وأن نقيم لأجله الحلقات النقاشية، والحوارات التلفزية، لأنه أتى صادما لمنطق المجتمع، محلقا خارج إجماع الأمة، وأكثر من ذلك كله يمكن اعتباره منتهكا للقوانين الجاري بها العمل.

إن هذا العمل اللافني الرديء في كل شيء، ماكان ليلقي له الناس بالا، لولا الضجة التي متعناه بها، والهالة الكبيرة التي أضفاها بعضنا على مقاطعه الشاذة والغريبة التي كان ناشرها على اليوتوب شديد الذكاء والنباهة.

وأستغرب كل الغرابة، انتداب بعض الناس -ولله الحمد على قلتهم-، أقلامهم وحناجرهم، ومنابرهم للمنافحة عن الإباحية، وصور الدعارة بحجة الحرية الفردية. وقد بلغت ببعضهم الجرأة والجسارة إلى حد التهجم على منتقدي الفيلم المهزلة ، بحجة ممارسة هؤلاء المعارضين للشريط، سلوك النفاق الاجتماعي!

والناظر إلى حججهم المهزوزة التي هي أوهن من بيت العنكبوت، سرعان ما يكتشف تهافتهم ودفاعهم عن هوى منحرف يعيش بقلوبهم وعقولهم، لقد اختلط الأمر على كثير من هؤلاء، فما عادوا يميزون بين الاعتراف بالواقع، والتطبيع معه ونشر الإباحية بين الناس! وتلك لعمري مصيبة وكارثة تورط فيها بعض من كنا نعدهم تلامذة غراميشي الذي رسم ملامح صورة المثقف الذي ينبض يراعه وفكره بنبضات مجتمعه.. ويعانق همومه

الإنسان حر في جسده ولاشك في هذا الأمر، لكن حريته مقيدة بشروط تتعلق بعدم إلحاق الأذى بغيره.

لقد حول بعضهم النقاش من منطق الحجاج بالحجة والدليل، إلى حلبة تصفية الحسابات ضد الذين من يختلف معهم في النحلة والمذهب والرؤية ،إن الأحداث الأخيرة التي شهدها المغرب بعد فيلم "الزين اللي فيك" والاستعراض السيء الذي قامت به بطلته، وحكاية القبلة بين فتاتين عاريتين بفناء المسجد دفاعا عن الشواذ، يهدد الأمن الأخلاقي للمجتمع والأمة.

و تعالي الصرخات، ولو على شبكات التواصل الاجتماعي دليل ساطع على أن مشاعر هذه الأمة وضميرها، لا يزالان على قيد الحياة، ينبضان غيرة وحسرة على نا آلت إليه أحوال العباد ، فلا تجربوا رجاء إيلام مشاعر المجتمع ، فإنه مهما تحرر لن يغدر بماضيه وأصوله ومبادئه وشريعته التي تستوطن تلابيب اللاشعور قبل أن تتجسد سلوكات مواقف عملية في الممارسة.

إن أمننا الأخلاقي، نقطة حمراء لا يمكننا القبول البتة المس به والنيل منه مهما كانت المسوغات، وأقول لمن وصف سلوك منتقدي الزيغ عن قيم المجتمع المغربي الأصيلة بالمنافق، إن النفاق هو أن نرضى بالمس بشرف نسائنا وبناتنا وصورة المرأة المغربية حيث كانت، وكيفما كانت.

وأدعو الحكومة ووزاراة الشؤون الاجتماعية والتضامن، للتفكير في ظاهرة الدعارة، ليس لتقنينها مثل بعض الدول العلمانية، ولكن لتخطيط مشاريع اجتماعية واقتصادية تنتشل اللواتي تضطرهن عوادي الزمن لبيع أجسادهن بثمن بخس مقابل دراهم معدودة، وصدق من قال "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.