انظر للمدرجات، وشاهد دخلة جماهير الصفاقسي بسرعة. وقبل أن يجاوبه ويقول له دون اكتراث كعادته، لا تشغل بالك مثلها مثل أي دخلة جماهيرية، ولنركز فقط في الملعب، بادره صاحب التنبيه سريعا ليقول بنبرة غلب عليها العصبية، "رسموك راكعا، تقدم الكأس لهم"، جملة كفيلة باستفزاز أي شخص، لكنه ليس كالآخرين، إنه محمد أبو تريكة الذي رد على زميله وقتها بكلمتين لا ثالث لهما، "قول يا رب".
"ولعت المدرجات في ملعب رادس، لا يمكن أن نتابع من خلال هذا الدخان أجواء ملعب رادس".. بهذه الكلمات وصف رؤوف خليف، المعلق التونسي الشهير الذي تابع المباراة من قلب الملعب، واصفا احتفالات جماهير مدينة صفاقس، الذين قاموا بالترحال إلى تونس العاصمة لحضور النهائي الكبير في أكبر ملاعبها.
انتهت مباراة الذهاب في القاهرة بنتيجة 1-1، وفي الأعراف الأفريقية تنتهي مباراة الإياب لصالح الفريق الذي لم ينهزم خارج أرضه، بنسبة 99.9 % تحدث هذه السيناريوهات في القارة السمراء، ما بالك بإقامة المباراة في تونس وأمام فريق شمال أفريقي؟ عفوا نادي القرن الأفريقي، ستخسر لقبك الفائز به في نسخة 2005، وتعطيه إلى الأبطال الجدد الذين أعدوا كافة تفاصيل الاحتفال، لكن حدثت المعجزة وسجل الأهلي هدف قاتل في الدقيقة الأخيرة من لعبة شبه مستحيلة، وخطف أبو تريكة العروس من قلب الفرح، الذي تحول فيما بعد إلى مآتم بدون سرداق عزاء.
لعب الأهلي مباراة تكتيكية مبهرة في الإياب، طريقة لعب جريئة وتغييرات منطقية، وكان الطرف الأفضل في معظم الأوقات، لكن الصفاقسي أيضا لم يكن مجرد ضيف، حيث أنه قام بهجمات مضادة وسجل هدف شرعي لم يحتسبه الحكم، وبعد وصول المباراة إلى الدقيقة تسعين، خطف المارد الأحمر البطولة ليحتفظ باللقب للعام الثاني على التوالي، ويعادل رقم الزمالك الفائز بالبطولة 5 مرات، قبل أن يصل ممثل الجزيرة إلى الرقم 8 فيما بعد.
تريكة هو أذكى لاعب عرفته الكرة المصرية، وباطل حرفيا ومعنويا وواقعيا، لأنه صنيع الجمهور قبل كل شيء |
في ملعب رادس، لا صوت يعلو فوق صوت تريكة، هكذا هم النجوم الكبار، يضعون أنفسهم دائما فوق كل اعتبار، هؤلاء أهم من الجميع بمن فيهم المدير الفني. لا عجب عندما يقول مدرب بقيمة غوارديولا أن الفروقات بين المدربين متاحة لكن الحسم يأتي عن طريق النجم أولا، حيث أن جودة لاعبك يمكنها وضعك في القمة أو دحرك إلى القاع، لذلك كلما جاء يوم 10 نوفمبر، ذكرى نهائي رادس 2006، فإننا نتذكر أبو تريكة أولا، قبل زملائه، وقبل الجهاز الفني، وقبل مانويل جوزيه، وليس السبب التكتيكي الذي ذكره بيب هو الإجابة الوحيدة لهذا التقدير غير المحدود لأسطورة الرقم 22.
يتم تكريم الماجيكو في كل بلاد العالم، في أميركا اللاتينية، أوروبا، آسيا، والوطن العربي من المحيط إلى الخليج، لكنه يعاني من تهميش واضح داخل وطنه، ويحارب مع أبواق تقدم المعنى الرديء للإعلام المنحط، لكن لماذا يحاربونه بهذا الشكل رغم أنه قدم لبلده وناديه وأهله وشعبه ما لم يقدمه غيره في شتى المجالات، من السياسة إلى الاقتصاد مرورا بالرياضة وكرة القدم!؟
وللإجابة على هذا السؤال الاستنكاري، دعونا نعود إلى الأصول، نحو جذور الدولة العميقة.
دكتور ابن دكتور ابن دكتور، وضابط ابن ضابط ابن ضابط، ولاعب كرة يندرج من أسرة كروية شهيرة، والده نجم سابق، ووالدته عضوة في اتحاد الكرة، هكذا كانت وبقت وستظل غرفة صناعة النجوم في مجتمعنا المصري، لذلك حصل حازم إمام على شهرة وصيت، وكان هو أيقونة منتخب 98 رفقة حسام حسن، ويستحق الثنائي ذلك بكل تاكيد،
لكن في بلد عشنا فيه كل أيامنا من أجل إقناعنا بشيء واحد فقط، الرئيس يجب أن يكون من مؤسسة واحدة، وفلان يجب أن ينحدر من أصل علان، أما البقية فهم مجرد أدوات مساعدة، لا أكثر ولا أقل. يستطع -البقية- الدخول في الصورة، وصناعة القرار في بعض الأحيان، كذلك الاقتراب من دوائر الحكم، لكنهم أبدا لن يصلوا للقمة، وحتى وإن وصلوا، فسقوطهم قادم لا محالة.
وحده محمد أبو تريكة كان الاستثناء!
الاستثناء بكل حذافيره، وبكل ما أوتيت هذه الكلمة من معنى، لأنه اللاعب المغمور الذي انتقل إلى نادي كبير، مثله مثل غيره، صحيح هناك توقعات بنجاحه، لكن نجاح جزئي معروف بدايته ونهايته، خصوصا مع عدم صغر سنه مقارنة بالبقية الذين لعبوا للأهلي والزمالك في عمر العشرين.
كان الوحيد الخارج من الدائرة، ليس ابن النادي المدلل، ولا النجم الصغير الذي تسابقت عليه أندية القمة في قطاعات الناشئين، ولا أسطورة الفريق المنافس الذي انتقل في صفقة قياسية إلى الغريم، ليصبح بطلا للبعض وخائنا للبعض الآخر، وبالطبع هو بعيد كل البعد عن شخصية الفتى المدلل الذي تعلم الكرة في أندية الجزيرة والشمس، قبل أن يشاهده أحد النجوم الكبار، وينقله إلى أندية القمة نظير صداقته بالكابتن "لوسي ابن طنط فكيهة".
المولود في"ناهيا" هو البطل القادم من بعيد، نجم الأفيش الذي وضع اسمه قبل المخرج، محبوب جمهور الدرجة الثالثة، أيقونة الكرة التي تمت صناعتها على الهواء مباشرة، من مباراة إلى أخرى، ومن بطولة إلى بطولة. لذلك أبو تريكة مختلف، لأنه بعيد عن أي تصنيف، وناجح في كسر كافة التابوهات القديمة المتهالكة.
يقول من يدعي الثقافة أو يمتهنها لأغراض أخرى، أبو تريكة أسطورة صنعها البعض، ووضع حولها علامات عديدة خاصة بالأخلاق والفروسية وخلافه، وهناك من هم أذكى وأفضل منه، لكن هذا الكلام في النهاية، باطل يراد به باطل، باطل كرويا وفنيا وتكتيكيا لأن تريكة هو أذكى لاعب عرفته الكرة المصرية، وباطل حرفيا ومعنويا وواقعيا، لأنه صنيع الجمهور قبل كل شيء.
تريكة هو الاختيار الصحيح الوحيد لكافة فئات هذا الشعب، دائما ما يقنعونا أننا بلا فائدة، بلا صوت صحيح، بلا أي خيار ناجح، الماجيكو فقط كان الفارق، الناس هم من اختاروه، لكي يثبت في النهاية أن هؤلاء يستطيعون الاختيار الصائب، ولو لمرة!